هنري زغيب
اتسعت شهرة ليوناردو داڤِنْتْشي (1452-1519) خصوصًا في لوحته “الموناليزا“ (“النهار العربي“ – 13 تموز/يوليو 2021) حتى تكاد تطغى على لوحات له أُخرى لا يقلُّ معظمها عن تلك اللوحة الأَشهر.
من تلك الأَعمال الأُخرى: لوحة “المرأَة والنمس“ رسمها سنة 1490 وكانت لها كذلك قصة لافتة، وتعرَّضت هي الأُخرى للسرقة كما تعرَّضت “الموناليزا“.
ذات الشعر المضْفَر
يقال لها “اللوحة المنسيَّة” ونادرًا ما ركَّز عليها الباحثون، مع أَن دراستها تشير إِلى كونها إِحدى الركائز الأُولى في أَعمال النهضة التشكيلية الإِيطالية، بل الأُوروپية في القرن السادس عشر.
وفي دفاتر مدوَّناته الخاصة صفحاتٌ عدَّة لمخطَّطات مختلفة كانت هي الأَساس لوضع هذه اللوحة (54x 39 سنتم). ومن تواريخ أَعماله يتَّضح أَنه وضعها قبل 26 سنة من رسْمه “الموناليزا” (1516) لكن هذه انتشرت أَكثر منها. وهي، كمعظم أَعمال داڤِنْتْشي، بأُسلوب “التشياكوسْكْورُو” (أَي تقْنية تَتالي النور والظل كي تعطي انطباعًا مثلَّث الأَبعاد).
تميزت تلك المرحلة من النهضة الإِيطالية بالعودة إلى الاهتمام بمعالم الطبيعة في الفن، ما كان له تأْثير على ذوق المتلقِّين وإِقبالهم على اللوحات، أَو على تكليف الرسامين وضْعها.
في هذا السياق اشتُهر داڤِنْتْشي بأَنه كان أَبرعَ من رَسَم الوجوه، وخصوصًا النسائية، مستعملًا وسيطًا جديدًا للرسم الزيتيّ. ولعل “الموناليزا” هنا من أَبرز ما يخلِّده، بتلك البسمة على شفتَيها ما زالت حتى اليوم لغز التفاسير.
حبيبة لودوڤيكو
الذي طلب من داڤِنْتْشي وضع تلك اللوحة، هو لودوڤيكو سْفورزا (1452-1508) دوق ميلانو. وهو الذي كذلك طلب أَيضًا من داڤِنْتْشي وضع جدرانيته الشهيرة “العشاء الأَخير” (1499).
في اللوحة امرأَة شابَّة ذاتُ شَعر مُضْفَر، تحمل نمسًا على ذراعيها. وإِلى براعة الرسام في تفاصيل الجسم الدقيقة، يبدو منها رمز النمْس وعلاقته بصاحبته السيدة الشابة. فما خلفية ذاك الرمز؟ ولماذا اختار الرسام تحديدًا هذا الحيوان غير المأْلوف عادة في اللوحات؟
المرأَة في اللوحة هي عشيقة سفورزا: الآنسة سيسيليا غاليراني (16 سنة). رسمها داڤِنْتْشي من وسطها إِلى أَعلى بثوب أَزرق وأَحمر، كامل الكمَّين، مع قلادة سوداء وشعر ذي ضفائر. وبقي داڤِنْتْشي، كسائر أَعماله، على انتمائه إِلى المدرسة الطبيعية في الرسم، كما يظهر في وجه المرأَة وصدرها، في ذراعها اليُسرى الحاملة النمْس، وفي خطوط النُور والظل التي تعطي انطباع العمْق البصريّ.
رمز النمْس
رأَى نقاد أَن حجم النمْس الأَبيض أَكبر من الحجم الطبيعي، معتبرين ذلك خطَأً غير مأْلوف من الرسام المعروف بخبرته في رسم الطبيعة البرية. غير أَن نقادًا آخرين برَّروا له ذلك بأَن الهدف ليس دقَّة الحجم الطبيعي بل إِبراز الرمز. فالنمْس الأَبيض رمز تقليدي للطهارة، وكان داڤِنْتْشي يحب هذا الحيوان بالذات، بدليل أَنه وضَع أَكثر من رسم له ومخطط في تلك الفترة بالذات، منها رسْم له وهو منصاعٌ مستسلمٌ طوعًا لصيَّاده، رمز غلَبة الشر على البراءة. ووضْعُ النمْس هادئًا هانئًا أَليفًا على ذراعَي المرأَة يرمز إِلى طهارة تلك المرأَة وبراءتها البيضاء النقية.
وللنمْس أَيضًا رمزٌ لدى طالب اللوحة، لودوڤيكو، وكان معروفًا بــ”النمْس الأَبيض” لانتمائه فترتئذٍ إِلى “جمعية النُموس” وشعارها نمْس أَبيض. وبوضْ داڤِنْتْشي النمْس على ذراعَي المرأَة، أَراد التأْكيد على رمز العلاقة العاطفية بين الحبيبَين. وأَكثر: ذهب تقدير آخر إِلى أَن النمْس قد يكون أَيضًا رمزًا إِسميًّا للآنسة التي في الصورة لأَن النمْس باليونانية معناه “غالير” ما يشير إِلى اسمها “غاليراني”.
سرقتها
وكما حصل لــ”الموناليزا”، تعرَّضت لوحة “المرأَة والنمْس” كذلك للسرقة. فبعد وفاة لودوڤيكو، راعي الرسام وطالبُ اللوحة، تنقَّلت هذه اللوحة إِلى أَكثر من مكان. وكانت سنة 1887 لدى أُسرة تْشارْتُوريسْكي في كراكوڤيا (پولونيا)، حتى الحرب العالمية الثانية حين سرقها جنود نازيون وأَرسلوها إِلى متحف القيصر فْرِدِريك في برلين. ثم استولى عليها هانس فرانك الحاكمُ العام في پولونيا.
وسنة 1946 أَخذها الجنود الأَميركيون من منزل فرانك، وأَعادوها إِلى متحف القيصر فْرِدِريك حيث لا تزال حتى اليوم.
كأَنما قدرُ المبدعين أَن يغيبوا فَتَؤُول أَعمالهم إِلى الضياع أَو التنقُّل أَو الحفْظ.
ويا هنيئًا لمن بَعد غيابه يسخو له القدَر بمن يهتَمُّ بأَعماله في متحف عام، أَو متحف خاص، أَو معرض دائم، أَو في مكتبة جامعية كبرى.
* الحلقة الثالثة والأَخيرة من هذه الثلاثية: “10 أَسرار في حياة ليوناردو داڤِنْتْشي“ (“النهار العربي“ – الثلثاء المقبل)
كلام الصور
- ما سر هذا النمْس على ذراعَيها؟
- لودوڤيكو (دوق ميلانو) طالبُ اللوحة
- “العشاء الأَخير” بطلب من لودوڤيكو
- داڤِنْتْشي في رسم ذاتي
- “اللوحة المنسيَّة” بحجْمها الكامل (54 x 39 سنتم)