هنري زغيب
في تاريخ الفنون والآداب أَن يُذكَرَ علَمٌ بأَثرٍ منه أَكثرَ شهرةً وخلودًا من سواه، مع أَن أَثرًا آخرَ لهذا العلَم قد لا يقلُّ أَهمية وإِبداعًا عن ذاك الــ“أَكثر شهرةً وخلودًا“.
هي هذه حال رائد النهضة الإِيطالية في الفن التشكيلي ليوناردو داڤِنْتْشِي (1452-1519) ورائعته الخالدة “الموناليزا” (نحو 1516) وهي إِحدى أَشهر لوحاته الخالدة. فماذا عنها؟
البسمةُ اللغز
ظلَّت سنواتٍ طويلةً مثارَ تساؤُلات وتحليل وتفسير أَلْغاز، بإِجماعِ أَنها أَهمُّ عمل تشكيلي للنهضة التشكيلية الإِيطالية والأُوروپية في القرن السادس عشر، ثم على المستوى العالمي في جميع العصور.
وهي منذ 1804 معزَّزةٌ في متحف اللوڤر (باريس) واحدة من أَهَم ورائعه، يزورها الملايين سنويًا متوقفين أَمامها بعد انتظار صف طويل والْتقاط صورة لها من بعيد (الاقتراب ممنوع)، وهي ضمن حصانة غير عادية وحماية أَمنية للحفظ من السرقة أَو التلف. ولا تزال البسمة السحرية على شفتيها لغزًا محيِّرًا كُنْهَ ما تعني: حزنًا؟ رضى؟ ألَمًا؟ سعادةً؟ حرمانًا؟ ولا جواب ولا ملمَح جواب منذ ولادتها قبل أَكثر من 500 سنة.
كلُّ ما وراءَها من إِبداعِ ريشةٍ وقصةِ امرأَةٍ، يجعلها أَثرًا خالدًا في تاريخ الفن أَكثرَ من مجرد زيتيةٍ على خشب (57×77 سنتم) لامرأَة جالسةٍ وخلْفها منظر طبيعي تخَيَّله الرسَّام، وقيمتُها تزداد إِدهاشًا (أَحدث تقدير من اللوڤر: نحو 800 مليون دولار).
تُعزى قريبةً إِلى وجه العذراء مريم، لكنها لامرأَة حقيقية، يداها مكتَّفَتان، تحدِّق مباشرةً إِلى رائيها في نِظرةٍ ما زال مدلولها يُحيِّر الدارسين والنقاد عما كان مقصد داڤنتشي إِبرازه في عُمق تينك العينين. لكنهم يُجمعون أَنْ قد يكون أَمضى تأَنِّيًا في رسم البُؤْبُؤَين والشفتين أَكثر مما في رسم سائر جسم المرأَة. الناظر إِلى اللوحة يرى عينَي الموناليزا تلاحقانه كيفما وأَنى تحرَّك يُمنة أَو يُسرةً كأَنما تلاحقانه وليستا عينَين جامدتَين في لوحة جامدة. وهذا ما شكَّل عبر العصور لُغْزَها وشهرتَها الخالدة من جيل إِلى جيل.
منصَّة الأَسئلة
سعى الباحثون إِلى تساؤُلات حول القصة وراء تلك الــ”ليزا غيرارديني”: ما هوية هذه المرأَة؟ مَن كلَّفَه رسْمَها؟ كم استغرق رسْمُها؟ لماذا احتفظ بها؟ كيف انتهت مُلْكًا فرنسيًّا لمتحف اللوڤر في نهاية القرن الثامن عشر؟ لماذا وكيف تعرَّضَت للسرقة؟
هي لوحةُ ليوناردو المفضَّلة. ظلَّ يحتفظ بها في بيته حتى يوم وفاته. تلك المرأَة الحقيقية تدعى ليزا غيرارديني (1478-1542) أَو أَو ليزا جيوكوندو أَو مونَّا ليزا. ولدَت في عائلة فلورنسية غنية، وتزوَّجت من تاجر الحرير فرنشسكو دل جيوكوندو (1465-1542) فاتخذت اسم أُسرته (من هنا تسمية اللوحة أَيضًا “الجيوكوندا”) وأَنجبَت خمسة أَولاد. كانت المرأَةُ المترَفَةُ عصرئِذٍ تُلقَّب “مونَّا” (تصغير مادونَّا)، من هنا دمْج الكلمتَين “مونَّا” و”ليزا” (أَي سيِّدتي) وانتشارها في العالم كلمةً واحدة “مونَّاليزا”.
هكذا تـمَّت سرقتها
صباح الِإثنين 21 آب/أُغسطس 1911 نجح في سرقتها الإِيطاليُّ ڤنتشنسُو پيروتجيا (عامل سابق في اللوڤر) بما سميَت وقتَئِذٍ “أَكبر سرقة في القرن العشرين”. فهو اختبأَ في المتحف ليلة الأَحد ونام حتى صباح الإِثنين (يوم الإِقفال الأُسبوعي). كان لابسًا مريولًا أَبيضَ طويلًا يلبسه عادةً عمَّالُ المتحف فوق ثيابهم، فلم يتنبَّهْ له يومها سائر العمَّال. دخل إِلى “الصالة المربَّعة” حيث اللوحة معلَّقة بأَربعة أَوتادٍ فكَّكَها من الحائط، أَنْزَلَ اللوحة ودخَل بها إِلى بيت الدرَج المجاور. ولأَنها مرسومة على خشبة (لا على قماش) ولا يمكن طيُّها لإِخفائها تحت مريولِه، خلعَ مريولَه ولفَّ بها اللوحة الخشبية، حملها تحت إِبطه وخرجَ من اللوڤر بشكل طبيعي، وتوجَّه إِلى بيته في پاريس مخبِّئًا إِياها في صندوقٍ لديه نحو سنتين، ثم حمَلها وعاد بها إِلى إيطاليا محتفظًا بها في بيته (فلورنسا)، إِلى أَن اتصل بماريو فراتِّيلّي (صاحب غالري في فلورنسا) طالبًا مبلغًا كي يسلِّمه اللوحة. حملها فراتِّيلِّي إِلى مدير غالري أُوفِّيتْزي الخبير جيوڤاني پودجي الذي، إِذ تأَكَّد من أَنها فعلًا “الموناليزا” الأَصلية، اتصل بالشرطة فداهمت السارق حيث كان ينتظر في الفندق وأَوقفه. خضع للسجن إِنما خفَّفتْ عقوبتَه حُجَّتُه أَنه سرقها بدافع أَن يعيدَها إِلى وطنها. وبعدما دارت اللوحة في بعض المتاحف الإِيطالية تحت شعار عودة اللوحة إِلى “بلادها الأُم”، عادت الى اللوڤر سنة 1913، باحتفال رسمي وصحافي كبير زاد من شهرتها في العالم. ثم تعرَّضت سنة 1956 لحادثتين (رمي الأَسيد والحجارة عليها) من دون أَذًى بالغ.
ذاكرة الزمان
اللوحة اليوم تبدو باهتةً قليلًا بظلالٍ ضعيفةِ البريق بين البُنّي والأَصفر، بعدما كانت حتمًا أَكثر إِشراقًا، لأَن ليوناردو استعمل لها تقْنيةَ التدَرُّج اللوني (من الفاتح إِلى الغامق) ليُبقي زوايا العينَين والشفتَين في تَمَوُّج الظلال، فخلَق للموناليزا تعابيرَ وجهٍ ملتبِسةَ التعبير، وملامح ِبسمةٍ ما زالت تحيِّر زوَّار اللوڤـر، كما تُحيِّر الخبراء بتأْليف اللوحة وخلفيَّتها وتقنية ليوناردو وهوية هذه المرأَة التي خلَّدها في لوحته.
واليوم ترتع اللوحة داخل غرفة زجاجية محصَّنة ضد الرصاص، وتُسجِّل التقارير والإِحصاءات أَنها أَكثر لوحة في العالم تُزَار وتُصَوَّر (إنما عن مسافة بعيدة).
في الذكرى 500 لوفاة داڤنْتْشي (2019) أَنشأَ المتحفُ إِلكترونيًّا زيارةً افتراضية للَّوحة يمكن من خلالها التوقُّف بصريًّا أَمام اللوحة مباشرةً عن مسافة قريبة جدًا ومعاينةٍ أَدق تفاصيلَ تأْليفها.
كلُّ هذا التدبير من أَجْل لوحةٍ، من أَجْل عملٍ فني خالدٍ عبر العصور، يهتمُّ به المعنيُّون لإِداركهم عظمةَ الخلودِ للفن، للإِبداع، لمبدعين هُم المناراتُ الباقيةُ في ذاكرة الزمان.
غير أَنَّ بين روائع داڤنتشي لوحةً أُخرى لسيِّدة أُخرى ذاتِ سـرٍّ لا يقلُّ لغْزًا عن سرِّ “الموناليزا”. ما هي؟ الجواب في الجزء الثاني من هذه الثلاثية (الجمعة المقبل في “النهار العربي”).
كلام الصور
- الأَصل في اللوڤر ونسخة في پرادو (مدريد)
- في متحف الفنون (واشنطن 1963) وأَمامها الرئيس الأَميركي جون كيندي وزوجته جاكلين، نائب الرئيس ليندون جونسون، وزير الثقافة الفرنسي أَندريه مالرو وزوجته..
- سارق الموناليزا موقوفًا
- احتفال اللوڤر بعودة “الموناليزا” إِليه (1913)
- اللوحة حاليًّا داخل غرفة زجاجية محصَّنَة ضدَّ الرصاص
- زُوَّار اللوڤر: مشاهدة وتصوير إِنَّـما… عن بُعد