هنري زغيب
عن مقالاتي في “النهار العربي” – هذه المنصة الإِلكترونية التي أُحبُّها – تصلني أَحيانًا ردودٌ خطية أَو شفهية أَني أَكتُب مقالاتٍ منفصلةً عن واقعنا اللبناني وما نعيشه. لهذا الرأْي عندي ردَّان: الأَولُ أَنني أَكتب لِمنصَّة واسعة الانتشار عربيًّا إِذًا ليست محصورةً لقرَّاء محليين، والآخَرُ أَنَّ ما هو من الواقع اللبناني مهما طال سيزول مع الوضع الراهن، وأَنا دأْبِيَ الشأْنُ الثقافي، آدابُهُ والفنونُ في العالم، وهي ثابتةٌ لا تزول مع أَيِّ وضع راهن. في هذا السياق أُواصل للقراء تقديمَ أَعلام من عالَم الآداب والفنون. هنا اليوم عن الرسَّامة الپولندية الجُذُور تَمارا دو لِمـپـيـكا.
ثقافة التجوال
وسَـمَها محبُّو لوحاتها بــ”بارونة الريشة”، ومهندسُو الديكور رأَوا في لوحاتها نخبةً يتوِّجون بها تصاميمهم الداخلية. هكذا تَمَارا دو لِمـپـيكا (1898 – 1980) باقيةٌ في ذاكرة المعنيِّين الفنية بمعزل عمَّا كانت ومَن كانت. فالفن العالي الخالد، حين ليس مُوَجَّهًا أَو مُؤَدلَجًا، يقاسُ بإِبداعه لا بهوية صاحبه أَو بانتماءَاته أَو بحياته الشخصية.
نشأَتْ تَمارا منذ مطالعها على إِيقاع استقلاليتها الشخصية التامة في أُسرة ميسورة من والد روسي محامي شركة فرنسية، ووالدة پولونية عالية الثقافة ناشطةٍ اجتماعيًّا، فتسنَّت لها منذ طفولتها ثقافةٌ واسعة، ومنذ صباها حياةُ سفَرٍ تثْقيفي (مع جدَّتها) إِلى أَعلام إِيطاليا (وفيها انبهَرَت بـ”فن النهضة” الساطع)، وإِلى علامات سويسرا الجميلة (دراستها الثانوية)، وإِلى معالم الريڤييرا الفرنسية، وصيفًا (منذ 1912) إِلى أُمسيات سانت پيترسبورغ الأُوپرالية، وفي إِحداها التقَت المحامي تادوز لِمـپـيكي وأَحبَّته وتزوَّجته وعاشت معه هناك.
نجمة الـمَطالع
حين انفجرَت الثورة البولشيڤية في روسيا (1917) انتقل الزوجان إِلى كوپنهاغن ثم إِلى لندن وأَخيرًا استقرَّا في باريس. لكن زوجها لم يجد فيها عملًا، فاضطُرَّت، كي تعيش وإِياه، إِلى بيع حليِّها الموروثة من أُسرتها. ولم يكفِ ذلك فقررت احتراف الرسم، وانتسبَت إِلى أَكاديميا “لاغراند شوميير” الشهيرة متتلمذةً على الرائد الانطباعيّ فالرمزيّ موريس دُنيس، والرائد التكعيبي أندريه لُوْتْ الذي أَثَّر على أُسلُوبها الهندسيّ الخاص ذي اللمسات العريضة والأَلوان الساطعة. كما تأَثَّرَت فترتئذٍ بكلاسيكيات أُوغُست إِنْغْـر.
في پاريس سنة 1923 بدأَت تعرض في صالات صغيرة جانبية، وسنة 1924 علَّقت لوحة في “معرض الرسَّامات المعاصرات”، حتى كان أَول معرض فرديّ لها (ميلانو 1925) مدخلًا لنيلها بعد سنتين (1927) الجائزة الفرنسية الأُولى في “معرض بوردو الدُوَلي للفنون الجميلة” فتوسَّعت حلقةُ معارفها في الأَوساط الأدبية والفنية.
إلى الشهرة الأَميركية
سنة 1934 تزوجت ثانية من الثري عاشق الفن التشكيلي البارون فون دِيُوزيكْ كوفْنِر. ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية انتقلت معه إِلى الولايات المتحدة (لوس إِنجلس 1939) ثم نيويورك (1943)، وسرعان ما ذاع اسمُها وراجت أَعمالُها. أَخذَت ترسم وجوه المشاهير، وتصمم ديكورات أَصدقائها النيويوركيين بذوقها الرهيف في الهندسة الداخلية. وهناك انتقل أَسلوبها إِلى دُرْجة العصر الأَميركي في الستينات: التعبيرية التجريدية (ضربات ريشة وسكين متوترة وسريعة).
وهكذا عاشت حياتها حرةً ناجحة فنيًّا واجتماعيًّا، وإِن نائيةً عن بلادها مهاجِرةً معظمَ حياتها. عرفَت كيف تستقطب الاهتمام لشخصها، وتستثمره نجاحًا للَوحاتها. كانت فنانةً وسيدةَ مجتمع في آن، سابقةً عصرها، طليعيةً، رائدةً، شهيرةً في الوسط التشكيلي الأَميركي كما كانت في الوسط الغنائي مادونا أَو الليدي غاغا. لذا كانت نجمةً مستقطِبةً وَسَاعةَ الشعبية والنخبة معًا. وهي شُغِفَت بفنِّها منغمسةً فيه حتى الإِدمان والرسم ساعات طويلةً مُضْنية قاسية على لوحة واحدة ولا تعَب.
وحيدةً تَغيبُ الشمس
سنة 1961 توفي زوجها البارون بنوية قلبية، فقامت بثلاث جولات بَحرية إِلى أَبرز موانئ العالم ومُدُنها الشاطئية. وسنة 1974 انتقلَت تعيش في كْوِيرْناڤاكا (جنوبي العاصمة مكسيكو) وهناك عاشت ست سنوات نائيةً حتى انطفأَت وحيدةً ذات ليلة في سريرها (18 آذار/مارس 1980).
صاخبةً كانت حياتها منذ المَطالع، إِنما فاترةً راحت تَغْرُبُ شمسُها حتى سقطت في بحر الغياب. لكن لوحاتها المتميزة بفرادتها باقيةٌ مشرقةً في ذاكرة مقْتنيها ونقادِ الفن الذين كرَّسوا بَصْمتَها ساطعةً بين كواكب الفن الخالد.
تبقى لوحاتُها شاهدة عليها وعلى عبارتها الشهيرة: “الأَعاجيبُ خرافة. لا أُعجوبة حقيقية إِلَّا ثمرة العمل الفني”.
كلام الصوَر:
– نائمة على مخدَّة الحلُم (1935)
1.تَمَارا دو لِـمبيكا في ربيع شهرتها (1941)
- “أَنا في سيارة بوغاتي الخضراء الفخمة” (1929)
- امرأَة تُهاتف (1930)
- امرأَة ذات قفازين (1929)
- فتاةٌ على الشرفة (1927)