هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

تَقْلَقُ بيروت ليلةً، وتقاوم أَلفَ ليلةٍ وليلة
“نقطة على الحرف”- الحلقة 1682
“صوت كلّ لبنان” – الأَحد 21 تموز 2024

ليس جديدًا – ولم يكُن يومًا جديدًا ولن يكون – أَنْ تَدْلهمَّ سماءُ لبنان بالغيوم السُود، تدومُ ما تدوم، ثم تروحُ الغيوم السُود تَتَفَتَّت، تَتَبَدَّد، تَتَفَرَّق، تَتَمَزَّق تدريجًا حتى الامِّـحاء، لتعودَ صافيةً سماءُ لبنان، هانئةً سماءُ لبنان، نقيةً سماءُ لبنان، وتسطعَ على شعبه وأَرضه شمسٌ نَوارةٌ من الفجر إِلى الفجر.

وليسَ جديدًا، ولن يكون، أَن يتهدَّدَ لبنانَ عدوٌّ نَيرونيٌّ هو عدوُّ شعبنا من أَول التاريخ، وعدوُّ أَرضنا منذ مزاولته اغتصابَ أَراضي أَهلِها وتهجيرَهم، ويبقى لبنانُ مشتهاه للانقضاض على تاريخه.

كما ليس جديدًا أَن يضعُف لبنانُ بسبب الضِعاف من “بيت بو سياسة” فيه، منذ عهود محلية وعقود زواريبية، وأَن يقوى لبنانُ بإِبداعه الذي، من أَول الحضارة، يتخطَّى حدودَه إِلى آفاق العالم.

أَقول الإِبداع، وأَعني المبدعين وإِرثَهم العبقريَّ الدائم وتراثَهم العالَمي الـمَعالم. فلبنانُ ضئيل بالجغرافيا، قليل بالديموغرافيا، لكنه جليل بالإِبداعوغرافيا. لذا يَسقُط سياسيًّا بِـمن يَسوسونه على دروب الفساد الزريَّة، وينهضُ إِبداعيًّا بِـمن يُنهِضونه على أَكُفِّهم  السنيَّة.

وفيما تَقلَقُ بيروت على مصيرها ليلةً بعد ليلة، جاء مَن يقاوم فيها أَلفَ ليلةٍ وليلة. وها هي بعد عشرةٍ من الأَيام على موعدٍ مع شمسٍ ليليةٍ تشرق على مسرح كركلَّا في الحادي والثلاثين من هذا الشهر. وفيما انْطوى عددٌ من مهرجانات هذا الصيف على إِلغاء أَو تأْجيل، قام رجلٌ آتٍ من صلابة الصخْر في هياكل بعلبك، قرَّر أَن يقهرَ القلق بِـخَشبة المسرح، ويقهرَ العتمةَ بأَضواء المسرح، ويقهرَ الخطر بانفتاح الستارة على عرس من الكوريغرافيا يَـمتدُّ من أَلِف الجمال إِلى يائِه، حتى إِذا انسَدَلَت الستارة يبدأُ العرس خارجَ المسرح في قلوب مَن يَلْهَجُون بأَن لبنان الدائم هو هذا: تلوي العاصفةُ أَغصان أَرزه لكنها لا تَـهُزُّ جذورَها الخالدة.

عبدالحليم كركلَّا، هذا الصيف، حَمَلَ فَيْئًا من عَمودٍ بعلبكي في هيكل جوبيتر، نادى ريمسكي كورساكوف كي يأْتي فيشاهدَ لبننة رائعته “شهرزاد”، أَلقى على ابنه إِيفان مسؤُوليةَ إِخراج الـ”شهرزاد” اللبنانية، دعا ابنتَه إِليسار كي تكتُب بالأَجساد الأَثيرية لوحات الجمال لِمسرحية “أَلف ليلة وليلة”، ثم… وقف في وجه الريح ليقول: “هوذا لبنان الذي تعلَّمْناهُ من شاعره سعيد عقل حين طَمْأَننا: “وقال من خطرٍ نَمضي إِلى خطر؟ ما هَمّ. نحنُ خُلِقْنا بيتُنا الخطرُ”.

بلى… مَن كان بيتُه الخطر يَربى على مقاومة الخطر. ومَن يقاومُ بالفن يعرف أَن سلاح الخطر يزولُ ولا يزولُ الفن. ومَن يأْتي من المستقبل يعرفُ أَن المستقبل يَصنَعُه مَن يستحقُّونه لا مَن يمارسونه سياسيًّا بمنطق الأَمس الضيِّق الزَبائني. وهنا أَستحضرُ قولةً دامغةً للُّبناني العالَمي الكبير الدكتور فيليب سالم الـمُردِّدِ دومًا أَنَّ “السياسة فنٌّ سامٍ نبيل لأَنها صناعة المستقبل”. هكذا لا تعودُ السياسة حَرتَقَاتٍ حلْزونيةً تافهةً، بل تغدو من عمَل مبدعين يَـمُدُّون أَيديهم إِلى الغد يقطِفون منه زادًا لأَبناءِ المستقبل.

وليس كالمبدعين خُلُودًا، كخُلُود ريمسكي كورساكوف في “شهرزاده” التي صاغها للمستقبل اللبناني عبدالحليم كركلَّا على مسرحه منذ الحادي والثلاثين من هذا الشهر.

هـنـري زغـيـب 

email@henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib