هنري زغيب
“لا يزال التمثال عاليًا، لكنَّ رخامَه يتشقَّق. فالنقدات تزداد، ومؤَلِّف هذا الكتاب – بنظرته المتحفِّظة لا خاليةً من الطرافة والفكر النقدي، ولا متخليًا عن الحيادية – لم يتخلَّ عن تقديره ذكاءَ هذا الرجل المتفرِّد وعناده. فمنذ رحيله وخلَفاؤُه يعودون إِليه مرجعًا، يتحركون في قوالب مؤَسساته، يحاولون التشبُّه به فلا يُفْلحون”.
بهذا المقطع على الغلاف الأَخير لَـخَّص الناشر الپاريسي “أُوريزون” إِصداره الجديد “تَشَقُّقات في تمثال شارل ديغول”* (شباط 2022) للكاتب اللبناني الفرنكوفوني عبدالله نعمان (م.1947).
“أَنا فرنسا”
منذ البداية يُقر المؤَلِّف أَنه أَمام قامة غير عادية لرجل تاريخي، جبينُه جبلٌ من المزاج المركَّب، كما مرسَلٌ من عَلٍ، طاهر حتى في تكبُّره: يرفض الدخول إِلى “الأَكاديميَا الفرنسية”، أَوصى أَلَّا يقامَ له مـأْتم وطني رسمي، وأَلّا يُدخَل لاحقًا إِلى الپانتيون (مُجَمَّع أَضرحة العظماء الفرنسيين). حين صدر الجزء الثاني من كتابه “مذكِّرات الحرب” (1956) حاورتْه الصحافية جاكلين پْـياتـيـيـه (1921-2001) لجريدة “لوموند” واستغربَ استغرابَها أَن يَرفض مقعد “الأَكاديميَا” فعاجلَها بلهجة متعالية: “… ولكنْ، مَدام، أَنا فرنسا وفرنسا أَنا. وفرنسا لا تدخل عضوًا في الأَكاديميَا. هل كان لويس الرابع عشر ليَدخل؟”. وأَكثر: كان يرفض أَن يكتب مقدِّمات يطلبها كُتَّاب لمؤَلَّفاتهم، إِلَّا واحدةً لكتاب “المعركة الأُولى” وضعتْهُ لور مولان (1892-1974) هي مذكرات شقيقها الـمُقاوِم جان مولان (1899-1943) ونضاله مع الجنرال ديغول خصوصًا إِبان الأَيام الخمسة الرهيبة التي أَدَّى أَخيرُها إِلى نداء ديغول الشهير من لندن في 18 حزيران/يونيو 1940.
“ديغول” بدون “الجنرال”
لأَن عبدالله نعمان يُوضح منذ فاتحة كتابه أَنه دپلوماسيّ (الملحق الثقافي لدى السفارة اللبنانية في باريس 1974- 2015) ومؤَرخ (بين مؤَلَّفاته موسوعة “لبنان أُمَّة غير مكتملة” – 2200 صفحة – منشورات غليف – پاريس 2015) وقارئٌ نهِم، كان من الطبيعي أَن يعالج كتابَه الجديد خارج هالة الديغولية الهاجيوغرافية تمجيدًا وترويجًا. من هنا رأَى إِلى قامة ديغول العالية فلم يرَها في غمامة لا تُطال بل لَحَظَ تَشَقُّقاتٍ معظَمُها مبرَّرٌ، فصاغ كتابه وعَـنْـوَنَهُ ببساطة جريئة “تَشَقُّقات في تمثال شارل ديغول”. لم يقُل “الجنرال” ولا قال “الرئيس”. شارل ديغول، قال، واكتفى. واعتبر أَن الروائي قد يتدخَّل في حادثة، في واقعة، ليعبِّر عن شعور، عن رأْي، عن مزاج. أَما المؤَرخ فيختفي خلف “أَنا” الكاتب لينقُل الحدَث، الواقعة، بدون انحياز. إِنه إِذًا يَنظر إِلى ديغول الرجل لا إِلى الهالة. فماذا رأَى؟
انطلاقًا من قوله بـــ”تَجَنُّب الذين يُهيِّئُون خلودهم وهُم أَحياء فينثُرون حولهم أَصدقاء ومعاونين يكتبون أَو يستكتبونهم” (يذكِّرني هذا الأَمر بجبران وما كان له من إِيحاءَات يَبُثُّها لماري هاسكل وباربره يونغ)، نسَج عبدالله نعمان كتابه في 12 فصلًا، بعد استهلاله ومقدمته، وخاتمة استخلاصية، مع لائحة طويلة من المصادر والمراجع، ما شكَّل كتابَه في 368 صفحة حجمًا وسطًا.
فصول السيرة والمسيرة
بدأَ من “الشخصيّ الخاص” (الفصل الأَول) وختَم بــ”الثأْر الانتقام” (الفصل الثاني عشر)، وعبَرَ على جسر من “الروحانية” فــ”التفاخُر الخُيَلائي” و”ازدراء الأَجانب”، و”العُقَد المركَّبة”، و”الرهافة الحساسة” فـ”الغدر والخيانة”، و”جنون العظمة” و”الأُوتوقراطية” و”قابلية الخطَأ” و”النظام الملكي”، فُصولًا متتاليةً يربط بينها خيط سائغ من أُسلوب عبدالله الخاص الذي أَعرفُهُ لديه في مؤَلَّفاته العربية (معظمها لدى “منشورات نعمان للثقافة” – جونيه)، والفرنسية (لدى ناشرين متعدِّدين).
حاذر الانزلاق إِلى الشخصي في كتابه وحاول أَن يبقى موضوعيًّا (لا بدون لَكْزَة هنا أَو هناك أَحيانًا) فجاء كتابُه باقةً من معلوماتٍ موَثَّقة تجعل نصَّهُ رحلةً في قامة رجل فرنسا التاريخي، تمرُّ في منعطفات ومراحل بين المرير والساطع، حتى ليخرج القارئ من هذا الكتاب مختلِف النظرة إِلى ديغول سلبًا أَو ببعض إِيجاب.
“ومن يكون هذا الديغول”؟
هذان الاختلافُ في الرأْي وغيابُ الإِجماع عليه قائدًا تاريخيًّا لم يقتصرا على البعيدين، بل نشَبا حتى ممن ساروا على دربه وحاذَوه. هذا مثلًا خصمُه الشرس فرنسوَا ميتّران يصفه بـ”المستأْثر الشخصانيّ” ويقول: “ومَن يكون هذا الديغول؟ فوهْرر؟ فاشي؟”، لكنه، منذ انتُخِب رئيسًا وجلس على كرسي ديغول في الإِليزيه، لم يكن بعيدًا من الصفات التي كان رمى بها ديغول.
وعن الشخصية الـمُغْلَقة استل عبدالله نعمان من دفاتر ديغول عبارته “القائد لا يتكلم… ويضبط مشاعره في داخله” (يوميَّة 31 تموز/يوليو 1916). ولعلَّه المفتاح للدخول إِلى شخصيةٍ صبغَت سيرته ومسيرته. فعن أَندريه مالرو قولُه يومًا: “لدى ديغول ليس من شارل أَبدًا”.
ومن ملامح شخصيته أَيضًا ازدراؤُه الأَجانب واعتبارُه المستعمرات “ملحقات” لفرنسا. من هنا قولُه في مطلع نداء 18 حزيران/يونيو: “فرنسا ليست وحيدة… إِن لها أَمبراطوريات في العالم وراءَ البحار”. ولعله استمدَّ هذا الشعور تَصاعديًّا من ذكرى ناپوليون الذي في 2 كانون الأَول/ديسمبر 1804 توَّج شخصه أَمبراطورًا، فكان ديغول يتحدَّث دومًا عن شخصه بصيغة الغائب (هو) معتبرًا أَنه “تزوَّج فرنسا” وتاليًا يتعامل معها ضمن قواعد الزوجية، وهو ما خلق فيه “الميغالومانيا” (جنون العظمة)، وما كرَّسه وصيةً بعد وفاته، إِذ قال يومًا لمعاونه فرنسوا فْلوهيك: “ضريحُ القائد يعكس عظَمة قدَره”. من هنا ما جاء في وصيته: “تجري جنازتي في بلدتي كولومبيه. إِذا مُتُّ خارجَها يُنقَل جثماني إِليها بدون أَيِّ موكب رسمي أَو شعبي. ويُكتَب على الضريح: “شارل ديغول: 1890 – 000) ولا كلمة أُخرى”.
ديغول الإِليزيه وشارل الأُمَّة
حين هوى عن تاج الإِليزيه بعد الاستفتاء الأَخير، انسحب إِلى بلدته بدون ضجيج، مات فيها بدون ضجيج، ودُفِن فيها بدون ضجيج. لكنَّ قامته ظلَّت فوق فرنسا سحابة سنوات. وفي عبارة عبدالله نعمان الختامية: “الحركات المناهِضةُ الديغولية بدأَت قبل الديغولية” ما يختصر قدَر هذا الرجل الذي استثار أَخصامًا أَكثر من أَنصار. لكنَّ عبدالله، وإِن أَضاء على تَشَقُّقات في التمثال، ظل وفيًّا لاحترافيته كاتبًا ومؤَرِّخًا، وأَغلَق كتابه على هذه العبارة النبيلة: “يومَ عاد الجنرال إِلى كولومبيه في 28 نيسان/أَبريل 1969، كان يعرف أَنه تخلَّى نهائيًّا عن هالته كقائد. لذا، بوصوله إِلى البيت، خلع معطف ديغول الإِليزيه ولبِسَ معطف شارل ليكون شارل الأُمَّة الفرنسية كلِّها”.
___________________________________________________________
*) La Statue ébréchée de Charles de Gaulle– Abdallah Naaman – Éditions Orizons, 25 rue des Écoles – Paris – 2022
كلام الصُوَر
- قامة ديغول الشعبية: هل تَشَقَّقَ التمثال؟
- غلاف الكتاب
- عبدالله نعمان، دبلوماسيًّا، مع فيليب (ابن شارل) ديغول – وزارة الخارجية الفرنسية – أَيلول/سپتمبر 1993.