هنري زغيب
غَريبٌ أَمرُه: تزوَّج أَربع مرات، كان ناشز العلاقات النسائية، مراسلًا حربيًّا خلال الحرب العالمية الثانية، غطَّاسًا ماهرًا على الأَعماق، مُصارعَ ثيرانٍ لافتًا، صيادَ طيورٍ بارعًا، كثيرَ الأَسفار والمغامرات الخطرة، من أَشهر الكُتَّاب الأَميركيين، حاز جائزة پوليتزر للقصة سنة 1953 (“العجوز والبحر”)، نال جائزة نوبل للأَدب سنة 1954، ثم … انتحر بطلقةٍ على رأْسه.
هكذا كان الكاتب الأَميركي الشهير إِرنست همنغواي (1899-1961).
توثيقي من 6 ساعات
شخصيتُهُ المركَّبة المعقَّدة عالجها فيلمٌ وثائقيٌّ من 6 ساعات مُكثَّفة (ثلاثة أَجزاء، كلٌّ منها ساعتان) أَنتجَتْهُ المؤَسسة الإِعلامية الأَميركية الكبرى PBS ونفَّذه (أَبحاثًا وإِعدادًا وتوليفًا وإِخراجًا) الاختصاصيان الأَميركيَّان في الأَفلام الوثائقية الصعبة: لين نوڤيك وكينيث بورنز، حققا فيه مراحل مهمة جدًّا من سيرة همنغواي وأَعماله وأَسفاره ومغامراته العاطفية ومقابلاته الصحافية، في مئات وثائق ومخطوطات ورسائل وأَفلام مصوَّرة وصور فوتوغرافية.
الإِثنين، مطلع الأُسبوع المقبل، تبثُّ 7 محطات تلڤزيونية عالمية هذا الوثائقي بأَجزائه الثلاثة، وتتوقَّع المؤَسسة أَن يكون من أَبرز ما سيشاهده الملايين هذا العام. وكان بورنز، في حديثه هذا الأُسبوع إِلى “الواشنطن پوست”، واثقًا في إِعلانه عن هذا الفيلم: “مَن يعرفون همنغواي أَو يظنُّون أَنهم يعرفونه، سيشاهدونه خلال ست ساعات كما لم يعرفوه من قبل. ومَن لا يعرفونه سيفاجَأُون بشخصية غريبةٍ فذَّةٍ وفظَّةٍ لن ينسَوها”. وكذلك نوڤيك، في حديثها إِلى شبكة “سي إِن إِن”، كشفَت عن همنغواي ذكوريته المتنمِّرة على النساء، وعنصريته المروَّسة، وقسْوته يقتل الثيران لإِشباع هوايته الرياضية، ويتلذّذ برؤْية النساء ذليلات أَمامه، دليل عُقَد نفسية تَتَمَظْهَر في سلوكه.
أَطباع غريبة
في الوثائقي أَن مارثا غيلْهُورْن زوجتَه الثالثة (روائية أَميركية كانت مراسلةً حربيةً كذلك) أَقنعَتْهُ بالسفر إِلى لندن لتغطية أَحداث الحرب (1939) فاشترى بطاقةَ سفرٍ واحدةً مدَّعيًا أَن سفر النساء في الطائرة مُحظَّر (اتضح لاحقًا وجودُ امرأَتين إِنكليزيتين في تلك الرحلة)، فلحقت به مارثا على متن سفينة نَروجية تجارية بطيئة كان يمكن أَن تصاب بقذيفة حربية في أَي وقت خلال عبورها الأَطلسي.
وفي الفيلم مشاهد موثَّقة عن خلواته للكتابة، وعلاقاته النسائية الغريبة: أَرغمَ كلًّا من زوجاته الأَربع تواليًا على قص شعرها قصيرًا كالرجال فيما هو أَرخى شعره طويلاً حتى كتفيه.
وفي روايته “جنَّة عدن” (صدرَت سنة 1986، بعد 25 سنة على وفاته، وهي طويلة جدًّا كان بدأَها سنة 1946) يتضح شذوذ بطل الرواية الكاتب ديڤيد بورن منذ أَسابيع زواجه الأُولى حين تكتشف عروسُه كاثرين أَن لديه ميولًا ذكورية وأُنثوية معًا، وكان يطلب من زوجته أَن تتصرَّف معه على أَنها هي الرجل وهو الأُنثى. وبدا في تلك الرواية ميلُ ديڤيد إِلى التحوُّل الجنسي.
صدمة المشاهدين
سيكون جديدًا وغريبًا على القرَّاء أَن يكتشفوا تَنَمُّريَّ الذكورة يتصرَّف بعُقَد جنسية غريبة ومغامرات صادمة في حياته الحميمة كحُبِّه أَن ينادى عليه “السيدة” همنغواي بدل “السيد” همنغواي. وحين سافر مع زوجته الرابعة ماري إِلى أَفريقيا سنة 1956، كتب في مذكراته: “ماري أَميرةُ الشياطين. تريدني أَن أَكون ابنتَها لا ابنَها، وأَنا أُحب ذلك، وتريد أَن تكون هي ابني، وأُحب ذلك أَيضًا”.
ومن عنصريته كرهُه الهنود الأَميركيين الأَصليين، والأَميركيين الأَفارقة الأُصول كما ذكَر في الفيلم الباحثُ الإِنكليزي مارك دادلي (أُستاذ في جامعة نورث كارولاينا) في حديثه عن ظاهرة “محو الذاكرة الثقافية وأَعلامها”، وعن إِمكان أَن يطال هذا المحوُ همنغواي. ذلك أَنَّ همنغواي في الذاكرة الثقافية الأَميركية كاتب كبير وعالمي، يتعامل الكثيرون مع آثاره لا مع سيرته، برغم ما في هذه من صورته كاتبًا مضطربَ الأَطباع منحرفَها. فنتاجه الأَدبي الغزير أَشملُ من حياة فردية أَمضاها صراعات مع ذاته ومع الآخرين، سبَّبَت له أَزماتٍ وآلامًا نفسيةً وجسديةً حادَّة أَدَّت به عند الرابعة فجر الأَحد 2 تموز/يوليو إِلى أَن يغافلَ زوجته ماري، وينسلَّ حافيًا إِلى قبو منزله في مدينة كيتشوم (ولاية آيداهو) ويَسحبَ بندقيته ويصوِّبَها إِلى جبينه ويضغطَ على زنادها مُنهيًا حياته قبل عشرين يومًا من احتفاله بذكرى ميلاده الثانية والستين.
يومَها، فور تبلُّغ الخبر، قال الرئيس جون كيندي: “اليومَ خسرَت أَميركا أَحد أَعظم كتَّابها، بل أَحد أَعظم مُواطني العالم”.
كلام الصور
- إِرنست همنغواي كاتبًا (الصورة الرئيسة)
- إِلى آلته الكاتبة: “لِمَن تُقرَع الأَجراس”؟ (1940)
- مراسلًا حربيًّا في لندن (1943)
- مع زوجته الثالثة في الصين (1941)
- مع زوجته الرابعة في أَفريقيا (1956)
- قبل انتحاره بأُسبوع (1961)