هنري زغيب
بعد غدٍ (الخميس أَوَّل تموز/يوليو الحالي) تحتفل نيويورك (في جزيرة إِيلّيس آيلِند) بتركيز نسخة برونزية (علُوّ 3 أَمتار) عن “تمثال الحرية” الضخم الأَصلي فيها، تبقى فيها 6 أَيام (بينها الاحتفال باليوم الوطني الأَميركي في 4 تموز/يوليو) ثم تنتقل الإِثنين المقبل (في السابع من الشهر) إِلى حديقة السفارة الفرنسية في واشنطن لتبقى فيها عشر سنوات (2021-2031)، رمز الصداقة وحُبّ الحرية بين الشعبَين الفرنسي والأَميركي.
في الجزء الأَول من هذا المقال (“النهار العربي”، الجمعة 25 حزيران/يونيو الحالي) كانت قصة النحات الفرنسي فردريك بارتولدي الذي هيَّأَ التمثال تصميمًا، وفي هذا الجزء الآخَر قصة تعاوُنه للتنفيذ مع مهندس فرنسي كذلك.
ذاك المهندس الشاب كان غوستاف إِيفِّل، الذي سيملأُ اسمه لاحقًا باريس وفرنسا والعالم بعمل خالدٍ يحمل اسمه: بُرج إِيفِّل.
كان على إِيفِّل، حين كلَّفَه بارتولدي بذلك سنة 1881، أَن يُكمل ما كان بدأَ به المهندس أُوجين لودوك وتوفي فجأَةً قبل أَن يتمِّمَه: وضْعُ تصميم الهيكل النهائي للتمثال وقاعدته بقواعد هندسيّة تجعل ركائزه تحتمل عوامل الطبيعة فيواجه العواصف العاتية ولا يهوي عن قاعدته.
تصاميم إِيفِّل الإِبداعية
اعتمد إِيفِّل في تصميمه مبدأَ تدعيم قاعدة الجسر، فقرر تجويف التمثال لتخفيف وزنه على قاعدته، وصمَّم لمتانة التدعيم أَربعة أَبراج فولاذية واحدُها بشكل 90 درجة، كلٌّ منها بعُلُوّ 30،5 مترًا، زاد عليها برجًا فولاذيًّا خامسًا من 20 مترًا ليُدَعِّم الزند الذي يعلو وحده في الهواء نحو 13 مترًا حاملًا الشعلةَ فوق جسم التمثال الذي شعارُه: “الحرية تنير العالم”.
ولتثبيت التمثال على قاعدته، استعمل ركائز معدنية صلدة، كلُّ عمودٍ منها بعرض 16 سنتم تنزل 15 مترًا في الأَرض، وهو عمق كافٍ لامتصاص تحرُّك التمثال في العواصف بوزنه الضخم نحو 8 سنتم إِلى الأَمام وإِلى الوراء وفْقَ حركة الريح. وجعل الهيكل بنحو 300 صفيحة نحاسية مرقَّقة ثبَّتَها بنحو 300 أَلف برشام (مسمار خاص لتثبيت الصفائح المعدنية) تجعل الهيكل مطواع الحركة إِنما على قوة وصلابة، فيُؤَمِّن – بالهيكل المطواع وثنايا الثوب المفرَّغ – أَلَّا يؤُذي التمثالَ تَمَدُّدُ معادنه عند ارتفاع حرارة الطقس.
ولكي يتجنَّب إِيفِّل خطر احتكاك كهربائي قد يولِّده التمثال بحديده ونحاسه من مواجهة معادنه مياهَ البحر المالحة التي تنخُرُها، أَدخَل إِيفِّل صفائح معدنية ملفوفةً بخِرَقٍ مدهونة بالرصاص الأَحمر بين كل وَصْلة من حديد ونحاس.
تجميع التمثال
مع انتهاء عمل إِيفِّل بدأَ تجميع قطع التمثال بأَحجامها الضخمة الطبيعية، في مشغل شركة “غاجيت وغوتييه”. وفي 13 أَيار/مايو 1883 صدر في صحيفة “الجريدة المصورة” مقال يصف دهشة المارَّة الپاريسيين عند رؤْيتهم رأْسَ التمثال الضخم على سطح المشغل. جاء في المقال: “الرأْس انتهى تركيبُه، وكذلك الذراع اليمنى، والعمل يجري على الخصر. ومن يرى الأَصابع الضخمة مصفوفة إِلى الجدار، كلُّ واحدة بطول مترين ونصف المتر، يشعر أَنه يمرُّ في أَرض مسحورة يعمل فيها أَقزام على صنع عملاق معدني مُخيف”.
في بقعة الأَرض التي استأْجرتْها الشركة (على شارع شازيل) كان العمال يجمعون قطع التمثال الموزَّعة على غير موقع: الرأْس الضخم في مكان، واليد الحاملة الشعلة في مكان آخر. وكانت قطعٌ واحدتُها من 4,5 أَمتار مركونة تحت جسر غْرُنيل عند طرف جزيرة البجَع الاصطناعية (وسْط نهر السين). وأُودِعت نسخة بارتولدي من الجفصين (قياس 1/16 من الحجم الأَصلي) لدى “متحف الفنون والمهن” في پاريس، هي ذاتُها التي صُبَّت عنها النسخة البرونزية لاحتفال هذا الأُسبوع في نيويورك.
تدشين التمثال رسميًّا
سنة 1884، نهار العيد الوطني الأَميركي (4 تموز/يوليو)، سُلِّم أَمرُ التمثال الكامل رسميًّا إِلى ليڤي مورتون السفير الأَميركي في پاريس. بقيَ أَن يُفكَّك من مكانه على شارع شازيل، ويُشحَن إِلى نيويورك. وهكذا كان: وُضِّبَت قِطعُه المفكَّكة في 241 قفصًا مخصَّصًا للشحن البحري، وأُرسِلَت بالقطار إِلى مرفإِ رُوان (شماليّ فرنسا في منطقة النوماندي) وشُحِنَت بالباخرة إِيزير إِلى مرفإِ نيويورك فوصلتْه في 17حزيران/يونيو 1885 وسْط طلقات المدافع المرحِّبة والحشود المنتظرة على الميناء. كان ذلك بعد 15 سنة من زيارة بارتولدي نيويورك وبعد 20 سنة من ولادة فكرة التمثال فيها خلال ذاك العشاء سنة 1870.
انتهى جمْع التمثال في أَربعة أَشهر بإِشراف النحات بارتولدي. لكنَّ مستلزمات الإِسمنْت والغرانيت لم تكن جاهزةً بعدُ في جزيرة إِيلِّيس آيلند، فتأَخر تدشين التمثال إِلى 28 تشرين الأَول/أُكتوبر 1886 في احتفال رسمي بحضور الرئيس الأَميركي )الثاني والعشرين) روڤر كليڤلند الذي أَعلنَ ذاك اليوم عطلة رسمية للمناسبة.
وفي الاحتفال قدّم الرئيسُ “مفتاح مدينة نيويورك” إِلى النحات بارتولدي الذي اعتلى التمثال حاملًا بيدٍ مفتاحَ المدينة، وبالأُخرى أَزاح العلَم الفرنسي الكبير عن وجه التمثال وسْط تصفيق الجمهور الكثيف. وفي اليوم التالي صدرت جريدة “نيويورك تايمز” وفي صدر صفحتها الأُولى: “انحسَرت الستارة عن جلالة الإِلَهَة وسْط تهليل الرجال وتصفيق النساء، لشعور الجميع أَن الحرية مُنِحَت إِليهم ووَصَلَت مجسَّدَةً بهذا التمثال”.
احتفالات هذا الأُسبوع
نعود إِلى الحاضر: طوال الأُسبوع الماضي تابعَت وسائل الإِعلام وصولَ النسخة البرونزية من مرفإِ لو هاڤر إِلى نيويورك السبت الماضي (19 حزيران/يونيو الحالي) على متن الباخرة “توسكا”، وغطَّت خطابَ مصمِّمة الأَزياء ديانا ڤون فُورشْتِنْبُرغ (75 سنة) عرَّابة حملة التبرعات لمتحف “تمثال الحرية”، وكانت أَلقَتْهُ لدى السفارة الفرنسية في واشنطن. ونهار الجمعة الماضي (25 الجاري) نقلَت شبكات الإِنترنت مباشرةً ندوة إِلكترونية بالإِنكليزية حول: “تمثال الحرية – تجديدُ الرمز” بحضور فيليپ إِتيانّ سفير فرنسا الحالي في الولايات المتحدة، والمهندس المعمار الأَميركي الناقد فيليپ كينِّيكوت، وأُوليڤييه فارون مدير “المعهد الوطني للفنون والمهن” في پاريس، والمؤَرخ پاپ نْدايــيــه المدير الجديد لــ”متحف تاريخ الهجرة الوطني” في پاريس.
ها دولَتان عُظْمَيَان تحتفلان بيوم الحرية، في عالم لن تنقذَه من مآسيه إِلَّا الحرية المسؤُولة بين شعوبه الحضارية.
كلام الصُوَر:
- رأْس تمثال الحرية استوحاه النحات من وجه أُمِّه
- غوستاڤ إِيفِّل مهندس التمثال (قبل بنائه البرج الحامل اسمه سنة 1889)
- تمثال الحرية شامخًا في قلب نيويورك
- ذراع التمثال في محترف النحات
- تجميع التمثال على ناصية شارع شازيل (پاريس)