حين دخلتُ المستشفى (المركز الطبي للجامعة اللبنانية الأَميركية LAU – مستشفى رزق) كان في بالي أَنها مجرَّدُ جراحة في الرُكبة بعد تضاؤُل غُضْروفها وَوُجوبِ تبديلها بأُخرى اصطناعية. ولم أَحدُس أَنها ستكون لي تجربة إِنسانية فرديَّة قد تنسحب على السِوى.
فلأَني لا وقتَ عندي للتَأَلُّم والتَوَجُّع والتَأَوُّه والتَظَلُّم والهَمْهَمَة والغَمْغَمَة والنَقّ، حزمتُ قراري ضامنًا لي صوابَه الجرَّاحُ الساطعُ الدكتور شاهين عاصي، تولَّاني بشُهرته وشَخصيته وبشَاشته وثقته العليا ومبْضعه الواثق، فاجترحَ ما يجبُ أَن… ولم أُفِقْ إِلَّا في غرفتي مُدَجَّجًا بأَنابيب وقنوات تتهاطل على ساعدَيَّ من أَكياس المصل وقوارير العقاقير وسائر “الليستة”، ومحاطًا بطاقم طبي لازمني أَربعة أَيام، بكل رفْق وتُؤَدة، كأَنْ لم يكن له سواي في هذا المستشفى الذي كان نهَضَ به جرَّاحُ الدماغ الدكتور ميشال معوَّض عميدًا كليةَ الطب في الجامعة، حتى إِذا اختير – ونِعْم الاختيار – رئيسًا للجامعة نهَضَ بها في دقَّة ما يجترحُه من صعوبات في جراحة الدماغ. ولأَجل كُلِّ ذلك، أَجدُني أَعتزُّ بانتمائي عضوًا في أُسرة هذه الجامعة الأُم التي تَحتضنني منذ 21 عامًا بأَحنَّ من أُمومةٍ وأَمتنَ من أُبُوَّة. لذا كنتُ أَهنأُ أَن أَرى في المستشفى شعار الجامعةLAU في كل مَمَر ورواق وباب وغرفة وملصق وإِشارة وثوب ممرضة وممرِّض وكل فاصلة من أُنس أَو جماد.
سوى أَنني، خلال تجربتي في مستشفى الجامعة، مَررتُ بحالتَين طريفتَين وثالثة عميقة.
الحالة الأُولى، العُري: ولم أَكن أَتصَوَّرني يومًا أَعرى أَمام رجُل (ممرِّض كان يغسلني صباح كلِّ يوم) لاعتيادي أَنَّ هذا العُري لا “وظيفة” له إِلَّا في “حضرة” النساء (غير الـمُعَّقَدات طبعًا بــ”تابو” القبيلة الجنسيّ).
الحالة الثانية، الكرسيّ المتحرك: ولم أَكُن يومًا أَراني عليه، قادَني به ممرض إِلى السيارة عند المغادرة لعجزي عن الاتِّكاء على ركبتي “الجديدة”، فلاحت أَخيلةٌ لي بعيدة أَرجو أَلَّا أَبلُغها لاحقًا مهما حَدث.
الحالة الثالثة، وهي الأَعمق: اكتَشَفْتُني ذا إِرادة قوية على اقتحام التردُّد بطبْع إِيجابي، مُجالِد، مُقرِّر، مُصمِّم، مُريدٍ بجرأَة، وهو ما ساعدني على اجتياز الخوف، وعَصَمَني عن الوقوع في الاستقالة: الاستقالة من العمر والحياة والكتابة والإِنتاج المتواصل، وأَبعدَني، كما أَنا دائمًا، عن أَن أَكون سلبيًّا، نَقَّاقًا، متشائمًا، داعيةَ تَيْئيسٍ أَسود، ناشرَ إِحباط، نموذجَ انهزام، مروِّجَ استسلام، ضحيةَ القلق والأَرق، كَمَن يُمضي نهاراته ولياليه في فراغ العمر وخواء الحياة منتظرًا ساعة وفاته.
كلُّ هذا الأَعلاه اكتشَـفْـتُـني فيه خلال أَربعةِ أَيامِ المستشفى، وكانت تتماوج في بالي عباراتٌ من هذا المقال رحتُ، كي لا أَنساها، أُحاول ترديدَها داخل صمتي، وتكرارَها في سكون السرير ويداي “معتَقَلَتَان” بلوازم ما بعد الجراحة، مُعَوَّقًا عن تدوينها على الورق.
ولِــمَ الحرص على حفظها؟ كي أَصُبَّها في “أَزرار” اليوم، فتكونَ مرآةً لكلِّ مَن يظن أَنه ليس قادرًا فيما هو قادر، وأُمثولةً بليغةَ الاستثمار الحياتي لدى كلِّ مَن يَبُثُّ في ذاته ومحيطه سُموم الانهيار متحجِّجًا مرةً بالوضع الخارجي في البلد، ومرةً بالوضع الداخلي في نفسيَّته، كي يبررَ سقوطه في الـمَوات ويصبحَ ناعبَ شُؤْم غُرابي يَـبْتعد عنه محيطُه قَرَفًا منه ورفضًا شخصَه وشخصيتَه.
بلى: تجربتي في مستشفى جامعتي، لم تكن حدَثًا طبيًّا عاديًّا لجراحة عادية، بل كانت حافزًا لي ولأَمثالي الإِيجابيين، أَنَّ الحياة جديرة باقتحام صعوباتها حين يكون الفردُ بين أَيدٍ أَمينةٍ وُثقى في فضاءٍ واثق.
حين تركتُ المستشفى، غادرتُ فيه جرَّاحًا ساطعًا هو الدكتور شاهين عاصي لأَستقبِلَه صديقَ عُمر، وطاقَمًا طبيًّا يَهْنأُ إِليه كلُّ مريض، مُوقنًا أَنه في حضْن جامعةٍ جعلَت في مستشفاها واحةَ إِلهامٍ إِيجابيةً، حتى ليغادر الكاتب سريرَه شافيًا، ويحوِّلَ تجربتَه الطبيةَ إِلى قطعة أَدبية وجدانية تُهدى إِلى كلِّ سِوى.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com