هنري زغيب
في الجزءَين السابقين من هذه الثلاثية، ذكرتُ نشوءَ مشكلة كتاب بودلير “أَزهار الشر” واتهامَه بخَدش الأَخلاق العامة والتقاليد الاجتماعية والأَعراف الدينية، حتى تسلَّمَتْه العدالة في محاكمة منعَت 6 قصائد من الكتاب.
في قفص الاتِّـهام
… وجاء اليوم الصعب: الخميس 20 تموز/يوليو 1857. بودلير في قفص الاتهام أَمام القاضيَين القاسيَين اللذين هما أَيضًا حكَما قبلذاك على فلوبير: دوباتي Dupaty رئيس المحكمة، وناكار Nacquart ابن طبيب بلزاك، ومعهُما المدعي العام إِرنست پينار.
خلال خلَوة التدارُس بين القاضيَين قبل المحاكمة، لاحظ پينار أَن الشاعر “بائس ومظلوم”. وكان محاميه أَشار في مرافعته إِلى أَنَّ بودلير “رجل صادق” وأَنه أَعطى المدَّعي العام “تفسيرًا واضحًا”.
خلال المحاكمة، وقف پينار حذِرًا، مستهلًّا كلامه بأَنه أَمام “قضية دقيقة”، وهو لا يدَّعي أَنه “ناقد أَدبي” ولا أَنه “خبير تيارات أَدبية” لكنَّ الشاعر “تخطَّى الحدود إِلى خدْش الأَخلاق العامة، واقترف ما لحظَ المشترع أَن القاضي يعاقب عليه”. وراح پينار يقرأُ جهارًا بعض الأَبيات من القصائد “المتَّهَمة” ويركّز فيها على كلماتٍ محدَّدة تشكِّل لأَيِّ ناقدٍ لوحةً خليعة تشوِّه الأَخلاق العامة، وبينها 4 قصائد تتصدى للأَخلاق الدينية.
مرافعة هزيلة
لم يحاول پينار التصويب على بودلير رجلًا فوصف طبيعته بـ”القَلِقَة وغيرِ المتوازنة”، لكنه شاعرًا رفض له بقسوةٍ حادَّة “قصائد فاجرة يجب منعها من الانتشار”. وجاءت مرافعة المحامي طويلةً وضعيفةً وهزيلةَ الإِلقاء والحجَج، لم يُصِبْ فيها ما يهمُّ أَن يسمعه پينار، بل راح يقارن بين “حالة بودلير وحالات كتَّاب وشعراء آخرين: لامرتين وموليير وموسيه وغوتييه ولافونتين ورابليه وبومارشيه، لم يَلْقَوا ما يلقاه بودلير من حكْم قاسٍ”. جاء جواب پينار حاسمًا: “خطأُ الشاعر أَنه – لبُلوغ هدفه مضمونًا ووسيلةً، رغم براعته الأُسلوبية الناجحة – أَوقَع القرَّاء في لوحات فاجرة تصدمهم وتثير فيهم مشاعرَ وأَحاسيس مضادَّة كلَّ حياء”.
الحُكْم القاسي
أَخيرًا صدَر الحكْم: “تغريم بودلير بـ300 فرنك، وكلٍّ من الناشرَيْن بـ100 فرنك، مع دفْع المصاريف، وحذْف 6 قصائد كليًا من الكتاب”. وأَشدُّ ما أَثَّر في بودلير أَن كتابه، بهذا الحُكْم، لم يؤْخذ كَكُل بل مُـجَزَّأً. فالجمال، في رأْيه، كالمرأَة كلٌّ لا يَتَجَزَّأ.
رفَض بودلير أَيَّ طلبٍ بالتبرئة. لكنه في 6 تشرين الأَول/أُكتوبر، بناءً على نصيحةٍ وعلى غرار ما فعل قبْله فلوبير، كتبَ إِلى الأَمبراطورة رسالةَ التماسٍ مطوَّلةً شرح لها فيها تفاصيلَ القضية ورأْيه في دفاعه عن الظلامة التي تلحق به. تسلَّم الرسالة وزيرُ الدفاع فحوَّلها إِلى النيابة العامة التي، من حُسْن الحظ، أَنها باتت برئاسة والد محاميه، فخفَّض العقوبة في 12 كانون الأَول/ديسمبر 1858 إِلى 100 فرنك. وبعد استرحامٍ آخَر من بودلير الذي وجَدَ أَنه وحيد ولا مُدَافع ولا مُعين، تَـمَّ تخفيضُ الغرامة مجَدَّدًا إِلى 50 فرنكًا، وجاء في قرار التخفيض أَن “المتَّهم أَعلن توبتَه وندَمَه وهو يعيش في حالة فقْر شديد”. وكان ڤيكتور هوغو انتصرَ له، وكتَب له رسالة من غيرنساي Guernesey (30 آب/أُغسطس 1758) ذكَر له فيها أَن “الحُكْم تتويجٌ له، وسوف تبقى أَزهارُه في تاريخ الأَدب ساطعةً كالنجوم”.
حذف 6 قصائد
بعد الحُكْم، تمَّ حذفُ القصائد الست من الكتاب، وصدَرت بدونها الطبعةُ الثانية سنة 1861، إِنما مع قصائد جديدة أُخرى.
لكن القصائد الممنوعة أُعيدَت في بروكسيل سنة 1864 ضمن كتاب “شعراءُ القرن التاسع عشر” أَصدره الناشر پوليه-مالاسيس، وكذلك سنة 1866 في مجموعة “قصائد تائهة” التي صدرَت في 200 نسخة فقط، تعمَّد بودلير أَن يرسلَ نسخة منها إِلى المدَّعي العام پينار.
ومن قْسْوة القدَر أَنْ كان لا بُدَّ من الانتظار نحو قرنٍ كاملٍ حتى تقدَّمت “جمعية أَهل الأَدب” سنة 1946 من الغرفة الجنائية في محكمة التمييز بكتابٍ تطلب فيه إِلغاء الحُكْم، وهو ما تَـمَّ فعلًا بعد سنتَين (31 أَيار/مايو 1949). وجاء في القرار: “إِن محكمة التمييز تُلغي حُكْم 20 تموز/يوليو 1857 عن الغرفة الجنائية السادسة، محكمة السين، الصادر بحَقّ بودلير والناشرَين پوليه مالاسيس ودوبْرواز بتهمة خدش الأَخلاق العامة والأَعراف الاجتماعية”.
لكن القرار جاء متأَخِّرًا لأَن القصائد الممنوعة كانت صدرَت سنة 1922 في طبعةٍ أَعقبها سنة 1930 صدورُ المجموعة الكاملة. لكن تَينَك الطبعتَين اقتصَرتا على الاختصاصيين فقط. وما إِلَّا سنة 1997 حتى صدرَت عن دار “الطاولة المستديرة” طبعة كاملة، تمامًا كما كانت صدرَت الطبعةُ الأُولى سنة 1857، وفيها يمكن القارئ أَن يرى القصائد كما صدرت في حينها، ويتحسس جمالَ هذا الكتاب الذي مات صاحبه متجرِّعًا أَن قصائده، في نظر العدالة، يضُمُّها “كتاب ملعون”.
من “الفيغارو” إِلى “الفيغارو”
هكذا بدأَت القضية مع “الفيغارو” سنة 1858، وها هي القضية ذاتُها اليوم، بعد 163 سنة، تحتلُّ في “الفيغارو” حيّزًا واسعًا من العدد الخاص الذي قبل أَسابيع أَصدرتْهُ “الفيغارو” احتفاءً بالمئوية الثانية (1821-2021) لولادة الشاعر الخالد بودلير.
وكما كتبتُ في الجزء الأَول من هذه الثلاثية، مِن العاديين مَن يَدخلون ذاكرة التاريخ لا بحضورهم أَو بإِبداعهم، بل لارتباط اسمهم، عفوًا أَو عمْدًا، بالخالدين فيتردَّد اسمُهم كلَّما ذَكَر التاريخ أَحدًا من أُولئك الخالدين.
هي هذه حالة المدعي العام إِرنست پينار الذي، بحُكْمه القاسي على فلوبير وبودلير، دخل تاريخ الأَدب لا في فرنسا فقط، بل في لبنان كذلك عبْر كتابين بالفرنسية للكاتب اللبناني الفرنكوفوني أَلكسندر نجار: بيوغرافيا “مدَّعي الأَمبراطورية العام” (2001)، ومسرحية “الضفدع” (2000) وتَمَّ تنفيذها بإِخراج برج فازليان على مسرح مونو – بيروت بين 2 و11 آذار/مارس 2001.
كلام الصُوَر
- “أَزهار الشر” كتابًا صوتيًّا
- طبعة حديثة مع مقدمة من جان پول سارتر
- مسرحية “الضفدع” لأَلكسندر نجَّار
- سيرة “المدَّعي العام” لأَلكسندر نجَّار