هنري زغيب
مِن العاديين مَن يَدخلون ذاكرة التاريخ لا بحضورهم أَو بإِبداعهم بل لارتباط اسمهم، عفوًا أَو عمْدًا، بالخالدين فيتردَّد اسمُهم كلَّما ذكَر التاريخ أَحدًا من أُولئك الخالدين. هذا ما جرى لقاضٍ عاديّ بصفة “مُدَّعٍ عامٍّ” دخَل ذاكرةَ الأَدب ما سوى لأَنه حكَم على كاتبٍ وشاعرٍ فرنسيَّيْن خالدين.
يتشابهان ويفترقان
في المئوية الثانية (1821-2021) لولادة الشاعر شارل بودلير، أَصدرت مجلة “الفيغارو” الفرنسية عددًا عنه خاصًّا من 164 صفحة بمجموعة دراسات ومقالات لاختصاصيين في سيرة بودلير ومسيرته الأَدبية، بينها: “بودلير الحالِم القَلِق”، “وَداعًا أَيامَ السعادة”، “تَحَدّي التقاليد الموروثة”، “مقارنة بين بودلير وپروست”، “بودلير في وادي الدموع”، “بين بودلير وهوغو”، “بودلير ناقدًا فنيًّا من الدرجة الأُولى”، “بودلير والأَخلاقيون”، “بودلير ودولاكْروَى”، “نجمة رِمبو فوق بودلير”، “بودلير وإِدغار آلِن پو”،… وتفاصيل كثيرة تَصدر للمرة الأُولى في هذا العدد الخاص.
بين نصوص العدد، أَقتطف الدَعوى الجنائية على بودلير بحُكْم القاضي المدَّعي العام إِرنست پــيـنـار Pinard.
المدَّعي العام
كان يمكن القاضي إِرنست پينار (1822-1909) أَن يمرَّ عابرًا في سجلَّات المحاكم الفرنسية، لولا أَنَّ اسمه ارتبط بدَعوَيَيْن من عالم الأَدب حكَم فيهما بقسوة حادَّة على الكاتب غوستاڤ فلوبير (1821-1880) فمنَع روايتَه “مدام بوڤاري” (1857)، وعلى الشاعر شارل بودلير (1821-1867) فمنَع ست قصائد طلبَ حذْفها من مجموعته “أَزهار الشر” (1857).
أَساسًا كان القاضي والشاعر نقيضَين نشْأَةً وطبيعةً ومزاجًا، مع أنهما من السن نفسها (بودلير 1821، پينار 1822) ويتشابهان ويفترقان في بعض النواحي: الشاعر فقَد أَباه وهو في الخامسة، القاضي وهو في الثامنة، القاضي نشأَ في بيئة تقيَّة محافظة تَكره مبادئ ڤولتير، والشاعر نشأَ قلِقًا حاقدًا على زوج أُمه وعلى مبادئ ڤولتير حتى أَنه كتب يومًا: “تُضْجِرني فرنسا لأَن كلَّ مَن فيها يُشبه ڤولتير”. القاضي ناوأَ المتمرِّدين في ثورة شباط/فبراير 1848، والشاعر نادى يومها باغتيال زوج أُمه الجنرال أُوپيك. القاضي استعمل سلطة العدالة صارمًا ليُزاول ما به يؤْمن من مبادئ، متدرِّجًا من منصب المحامي العام/نائب المدعي العام في عدد من المدن إِلى منصب المدَّعي العام في پاريس (29 تشرين الأَول/أكتوبر 1853)، راتعًا في منصبه متزوِّجًا وله ولد، فيما كان بودلير عامئذٍ غارقًا في وحدته الحزينة، بين ترجماته ومقالاته، منْزويًا في شارع پيغال داخل غرفة باردة بدون تدفئة.
صُدُور الكتاب
سنة 1853بدأَ بودلير يكتب قصائد يرسلها إِلى ملهمته مدام دو ساباتييه (أَپولوني ساباتييهSabatier 1822-1890: سيّدة مجتمع وصاحبة صالون أَدبي)، وظلَّ يدعوها “ملاكه” حتى ثبُت له لاحقًا أَنها مجرَّد امرأَة عادية أَهمَلَتْهُ فتخلَّى عنها ناقمًا غاضبًا.
في 25 حزيران/يونيو 1857 وصلَت إِلى المكتبات مجموعته الشعرية “أَزهار الشر” حاملةً 100 قصيدة، أَصدرتْها داران للنشر: پوليه مالاسِّيPoulet-Malassis ودو بْرُواز De Broise. وكان العنوان مثيرًا لا تفتُّحَ الأَزهار بل تفتُّحَ الأَعين على ما في المجموعة من جُرأَة تَبلغ حدَّ الفضيحة الصادمة، خصوصًا في قصائد تمجِّد الشيطان على أَنه “أَجمل الملائكة وأَكثرهُم علْمًا”.
استفزاز المدعي العام
كانت هذه القصائد ومثيلاتها حافزًا للقاضي پينار مدَّعيًا عامًّا كي يتحرك، كما سبقَ أَن استفزَّتْه في نهاية 1856 رواية غوستاڤ فلوبير “مدام بوڤاري” فلاحق جنائيًّا “مجلة پاريس” (أُسبوعية أَدبية تأَسست سنة 1929) لأَنها بدأَت تنشرها على حلقات، متسلِّحًا بكون المجلة كانت مناهضةً السلطةَ الأَمبراطورية. ويوم محاكمة الرواية (25 كانون الثاني/يناير 1857) أَعلن پينار في قرار الاتهام أَنَّ “الفن بدون أَخلاق لا يعود فنًّا، بل يكون كامرأَة تتخلى عن ملابسها”.
بهذه النظرة التقليدية المحافِظة رأَى إلى مجموعة بودلير الصادرة حديثًا لِما وجد فيها من جُنَح “التجرُّؤ على الأَخلاق العامة والدينية والتقاليد الاجتماعية” كما تنص المادتان 1 و2 من قانون 17 أَيار/مايو 1919 والمادتان 59 و60 من قانون الجزاء.
خافَ بودلير. راسَلَ ناشره (11 تموز/يوليو 1857) فنصحَه هذا بإِخفاء نُسَخ الكتاب وهو ذاتُه بدأَ يَسحبُها من المكتبات ويُخفيها، خصوصًا بعد صدور مقال عنه هجومي في “الفيغارو”.
ما الذي في مقال الفيغارو؟ وكيف أَثَّر سلبًا على قرار المدَّعي العام؟
الجواب في الجزء الثاني من هذه الثلاثية.
كلام الصُوَر
- الطبعة الأُولى 1857 الممنوعة من كتاب بودلير
- غلاف عدد “الفيغارو” الجديد الخاص ببودلير
- المدَّعي العام إِرنست پينار