هنري زغيب
الأُسبوع المقبل (التاسع من هذا الشهر) يشهد مسرح “فوروم تِلِكوم” في بونّ “أُوركسترا بيتهوڤن” بقيادة مديرها العام ديرك كافتان تعزف للمرة العالمية الأُولى رائعةَ بيتهوڤن الجديدة “السمفونْيَا العاشرة” بعد سنواتٍ من العمل الدؤُوب على جمع نثار نوطاتٍ دَوَّنَها لها بيتهوڤن وتُوُفِّي قبل أَن يُكْملها. ولإِنجاز هذه السمفونْيَا قصة لافتة.
أَوراقُها ونوطاتُها المتناثرة
تُوُفِّي بيتهوڤِن سنة 1827 بعد ثلاث سنوات من صدور رائعته الخالدة “السمفونْيَا التاسعة” (7 أَيار/مايو 1824) وهي التي يعتبرها الخبراء قمَّة أَعماله. وكان أَلَّفها ولم يسمعْها بسبب الصمَم الكلي الذي أَصابه منذ 1814 وكان يومها في ربيعه الرابع والأَربعين. سوى أَن الصمَم لم يُعِقْهُ عن مواصلة التأْليف، فبدأَ العمل على “السمفونْيَا العاشرة” تلبيةً طلبَ “الجمعية الفيلهارمونية الملَكية” التي كانت سنة 1817 كلَّفَتْهُ وضعَ سمفونْيَاتَين. أَنجز “التاسعة” وبدأَت تسوء صحته وتعتلُّ تدريجًا وتضعف قواه الإِبداعية، حتى خطفه الموت سنة 1827 وهو في السادسة والخمسين، فترك نوطات سمفونياه “العاشرة” مبعثرة بين أَوراقه، وبقيَت سنواتٍ طويلةً هائمة نائمة ومثارَ تساؤُل محبي بيتهوڤِن عما يمكن أَن تكونه هذه التي لم تكتمل، حتى قام قبل سنواتٍ فريقُ عملٍ مختصٌّ بعلوم الموسيقى وتكنولوجيات الكومپيوتر المتطوِّرة جدًّا، فجمَع تلك النوطات وحاول تركيب “السمفونْيَا العاشرة” كما كان يمكن أَن يكتبَها بيتهوڤِن كاملةً لو لم تنكسر بالموت سنواتُه النضرة.
ذاك العمل المضْني قام به فريق اختصاصي من مؤَرخين وخبراء في علوم الموسيقى ومؤَلفين كلاسيكيين وعلماء كومپيوتر حاولوا صياغة تلك النوطات وفق معرفتهم العميقة بأُسلوب بيتهوڤِن.
بين أَعضاء ذاك الفريق كان الدكتور أَحمد الجمّال الأُستاذ في جامعة راتْكِرْزْ (ولاية نيوجيرسي الأَميركية) مؤَسس/مدير “مختبر الفنون والذكاء الاصطناعي” في الجامعة، توصَّلَ إِلى “تركيب” جهاز إِلكتروني ذكيّ أَلْقَمَهُ جميع أَعمال بيتهوڤِن وجميع النوطات المتفرقة بين أَوراقه، ومنها نوطات “السمفونْيَا العاشرة”.
محاولات أُولى لــ”تركيب” العاشرة
في هيكلية السمفونْيَا عادةً أَربع حركات: أُولى سريعة، ثانية بطيئة، ثالثة متوسطة بين بطيئة وسريعة، ورابعة سريعة وفخمة. هكذا وضع بيتهوڤِن سمفونْيَاه “التاسعة” سنة 1824 وختمَها بــ”نشيد الفرح” الشهير الخالد. وساءَت صحته فلم يكتب من “العاشرة” إِلَّا نوطات متفرقة وأَفكارًا كان يريد توسيعها في النوطات.
جرت سابقًا محاولات لـ”صياغة” تلك “العاشرة”، أَبرزُها سنة 1988 مع الخبير الإِنكليزي بعلوم الموسيقى باري كوپر (مولود 1949) الاختصاصي المعمِّق بأَعمال بيتهوڤِن ومحرِّر الكتاب الجَماعي”خلاصات بيتهوڤِن” (1991). حاول “تركيب” الحركتين الأُولى والثانية رابطًا نحو 250 نوطة متفرقة وَفْق ما اختبره من الأُسلوب البيتهوڤِني السمفوني. لم يتمكَّن أَحد بعده من إِكمال “التركيب”، فنام المشروع 31 سنة.
مع مطلع 2019 عاود العملَ الدكتور ماتياس رُودِر (مدير مؤَسسة كارايان في سالزبورغ – النمسا، وهي تُعنى بــ”تكنولوجيا الموسيقى إِلكترونيًّا”) فاتصل بالدكتور أَحمد الجمَّال مُخبرًا إِياه بأَنه يشكِّل فريقًا خاصًّا لـ”تركيب” السمفونْيَا “العاشرة” وإِطلاقها سنة 2020 في الذكرى 250 لولادة بيتهوڤِن (1770) وطلب تعاوُنَه بتقنيات مختبر “الذكاء الاصطناعي” الإِلكترونية، لتعبئَة فراغ تركه بيتهوڤِن متفرقًا بين كلٍّ من نوطاته لكنه لم يُكْملْها.
أَحمد الجمّال الـمُنقِذ من اليأْس
مستحيلًا بدا الأَمرُ في البداية. كان المختبر قام بتجارب شبيهة إِنما لا مثل هذه. لكنّ الجمَّال قَبِلَ التحدي، فأَكمَلَ رُودِر تشكيل فريقه من: المؤَلف الموسيقي النمساوي والتر ڤيرزوڤا الخبير بتآليف بيتهوڤِن، مارك غوتمان الخبير بالموسيقى الإِلكترونية على الكومپيوتر، روبرت ليڤِن عازف الپيانو وخبير العلوم الموسيقية في جامعة هارڤرد وهو كان أَكمل (وعزَف) أَعمالًا من موزار وباخ غيرَ مكتملة.
في حزيران/يونيو 2019 التأَم الفريق يومين في المكتبة الموسيقية لدى جامعة هارڤرد: صالة وسيعة مع پيانو ولوح أَسوَد وقصاصات من نوطات بيتهوڤِن. تداولوا في لملَمة هذه المتفرقات وفْقَ لغة بيتهوڤِن الموسيقية وأَدواتها، وكيف يتصورونه كان يمكن أَن يستعملها للتأْليف قياسًا على استعماله إِياها في سائر أَعماله، وكما كان يمكن أَن يستعملها في “السمفونْيَا العاشرة”.
كان ذلك تحدِّيًا كبيرًا. فـ”المختبر” لا يستعيدُ إِلَّا بضْع ثوانٍ فقط، فكيف يمكن تلقيمُ الجهاز نوطاتٍ أَطولَ كي يعيد تركيب عمل كامل؟ هنا اجتمع الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي: الخبراء الموسيقيون لملموا النوطات قياسًا على سائر سمفونْيِات بيتهوڤِن لتجيْءَ نثراتُ النوطات في موضعها من السياق العام وفْق حركات السمفونْيَا الأَربع، وأَخذ جهاز “الذكاء الاصطناعي” في التشكيل والتوليف: يأْخذ جملة قصيرة ويمدُّ هيكليَّتها ما يمكن إِلى أَسطرٍ تالية، كما مُتَتَاليات بيتهوڤِن في سمفونياته السابقة، لمحاولة إِكمال النثرات مضمومةً في جهاز المختبر وتشكيل هيكلية السمفونْيَا أُوركستراليًا وتوزيعها على سائر الآلات.
بيتهوڤِن في بيت بيتهوڤِن
في تشرين الثاني/نوڤمبر 2019 اجتمع الفريق مجدَّدًا، إِنما في بيت بيتهوڤِن/المتحف (بونّ) حيث ولِد ونشَأ. أَداروا الجهاز وطبعوا منه النوطات كما سلْسلَها، وراحوا يلائِمونها لـ”السمفونْيَا العاشرة”، فيما راح عازفٌ يؤَدِّيها على الپيانو أَمام حشد صحافيين وخبراء في أَعمال بيتهوڤِن. لم يستطع أَحد تَبيانَ أَين انتهت نوطات بيتهوڤِن وأَين ابتدأَت نوطات الجهاز.
كانت عبقرية بيتهوڤِن في التأْليف تتجلَّى في هذا التحدي. وطوال 18 شهرًا مضْنيًا من العمل اليومي، تمكَّن الفريق من تشكيل حركتَين كاملتَين كلٌّ منهما في 20 دقيقة.
هكذا بدا أَن الجهاز ليس بديلًا بل أَداةٌ تتيح للمبدعين تنفيذ أَعمالهم بطريقة جديدة. وما كان يمكن إِنجازُ هذا العمل الجبار لولا ذاك الفريق من مؤَرخين ومؤَلفين موسيقيين وخبراء.
السبت المقبل، في التاسع من هذا الشهر، سيشهد العالم أَولَ عزفٍ لآخرِ سمفونْيَا اكتملَت من عبقرية مبدعٍ طرَّز تاريخ الموسيقى بأَعمالٍ خالدة. وكما لم يتسنَّ له “سَماع” سمفونياه “التاسعة” كذلك ما كان له أَن يسمع رائعتَه “العاشرة” ولا تصفيقَ الجمهور لعبقرية الخالدة.
(المقال التالي: قدَر بيتهوڤِن القاسي بين التأْليف والصمَم).
كلام الصُوَر
- مخطوطة بيتهوڤِن لأَفكار الحركة الثالثة من “السمفونْيَا العاشرة”
- أَحمد الجمَّال خبير “الذكاء الاصطناعي”
- صفحة غير مكتملة من “السمفونْيَا العاشرة”
- أَول تسجيل لــ”العاشرة” مع أُوركسترا لندن السمفونيَّة
- بيتهوڤن يكتب موسيقاه التي… لن يسمَعَها