هنري زغيب
لم تُنجِب من زواجها، مع أَنها أَمضت حياتها تكتُب قصصًا للأَطفال، فأَوصَت بجميع ممتلكاتها إِلى “جمعية الإِرث الوطني” البريطانية للمحافظة على الأَبنية الأَثرية والمواقع الطبيعية. وهي حتى اليوم تحافظ على إِرث كاتبةٍ تركَت للأَولاد قصصًا جعلَتْهم يحلمون في طفولتهم وينقلون قصصها إِلى أَولادهم وأَحفادهم.
تنسُجُ الحياةُ أَحيانًا قدَرًا قاسيًا يعيشه المبدع محرومًا من الأَولاد، لكنه يقهر قدَره بمؤَلفات أَوفى من الأَولاد وأَقوى من القدَر.
تلك حالُ بياتريكْسْ پوتر، الكاتبة الإِنكليزية مبدعة قصص الأَطفال في القرن التاسع عشر.
أُسارع هنا إِلى الفصل بينها وبين “هاري پوتر”، الشخصية الخيالية التي ابتكَرَتْها الكاتبة الإِنكليزية المعاصرة جُوانا رولِنغ (مولودة سنة 1965) في سلسلة رواياتٍ للأَطفال باتت اليوم رائجة في نحو 500 مليون نسخة في نحو 80 لغة في العالم.
عبقرية بياتريكْسْ أَنها خلقَت شخصياتٍ صغيرةً تلوِّن أَحلام الأَطفال وتكبَرَ معهم.
طفلة واعدة
وُلدَت في لندن سنة 1866 لعائلة ثرية، ونشأَت بين الحاضنات في بيئة ڤيكتورية مُترَفة. لم تكن البنت عصرئذٍ تذهب إِلى المدرسة، فتلقَّت الطفلة بياتريكْسْ دروسها في قاعة من البيت مخصصة للدراسة، حولها أَلعابٌ من الحيوانات: أَرانب، فئران، ضفادع، خفافيش، … وكانت منذ طفولتها تحب الرسم فبدأَت ترسم الحيوانات، وتُمضي وقتًا في الطبيعة، أَو تصحب والدَها إِلى المتاحف والمعارض، وتنتقل مع عائلتها في القطار صيفًا تُمضي أَشهُرَه في الريف السْكوتلندي حيث لعائلتها مزرعة كبرى فيها حيوانات أَليفة، وتتنقَّل في الواحات والغابات، تتأَمل الطبيعة وترسم الحيوانات والأَزهار ونباتات الفطر التي كالمظلَّات.
لاحقًا أَخذت ترسم على بطاقاتٍ حيواناتٍ صغيرةً بلباس البشر. وفي عامها السابع والعشرين (أَيلول/سپتمبر 1893) كتبَت رسالة إِلى طفل يدعى نويل مور (ابن حاضنتها) روَت له فيها مغامرات أَرنبٍ اخترعتْه وسَمَّتْه پيتر، يعصى أَوامر أُمه ويذهب كي يلعب في حديقة السيدة ماك غريغور مع حيوانات أَليفة أُخرى في لباس بَشَريّ. كانت تلك القصة القصيرة نواةَ كتابها الأَول “قصة الأَرنب پيتر”. ثم راحت تكتب قصصًا مماثلة عن حيوانات أُخرى، لكن الأَرنب الصغير پيتر هو الذي لاحقًا بات الأَشهر في العالم.
كاتبة واعدة
رفض مخطوطتَها الأُولى ستةُ ناشرين، ولم يقْبلْها سوى واحد: فردريك وُورِن، وغامر بطبعها سنة 1902. بعد سنة كان باع 50000 نسخة، تلَتْها 22 مغامرة للأَرنب پيتر باللباس الأَزرق راحت تدور العالم في معظم اللغات. وراجت كتُبها الصغيرة المربعة الشكل يشتريها الأَهل لأَولادهم بثمن مريح. ربحت بياتريكْسْ من المال ما جعلها تستقلُّ عن عائلتها وتغادر لندن إِلى بقعة البحيرات (في منطقة “التل العالي” شمالي إِنكلترا). هناك اشترت بيتًا صغيرًا حوله مزرعة وحيوانات أَليفة، وأَخذت تُمضي وقتها بالكتابة والرسم من وحي مناظر حول مزرعتها. وفي السابعة والأَربعين تزوَّجت الثريّ وليام هيليس الذي وجدَت فيه حنانًا ينقصها، آمنَ بكتاباتها ونشاطها، ودعَمَها في مشاريعها العقارية. ولحرصها على الطبيعة وجمال منطقة البحيرات، اشترت الكثير من الأَراضي حولها. وراحت تربي الخرفان في قطعان مؤَصَّلة وتربح جوائز في مسابقات زراعية. وكانت تتصل بجمعيات مزارعين وتربي قطعان الغنَم، وغالبًا ما تبدو في الصُور بالثوب الطويل والقبّعة الخاصة بشكل جَرَس.
صديقة البيئَة والطبيعة
كانت بياتريكْسْ مُحِبةً البيئةَ النقية، وتهتم بالحفاظ على الطبيعة وعدم إِفسادها بكثرة الأَبنية. وهي منذ عشريناتها كانت تحب الطبيعة وترسم ما فيها وتكتب عن نباتاتها وزهورها. وإِذ لم يكن مسموحًا لها كامرأَة أَن تدخل عضوًا في “الجمعية الـمَلَكية للحدائق”، عاكست الصورة النمطية للمرأَة، واستعاضت بالفن رسمًا و”اختراعَ” قصص للصغار عن حيوانات أَليفة طريفة في حدائق طريفة.
عاشت غنيَّة، إِنما منعزلة بين مناظرها وأَراضيها وحيواناتٍ أَليفة أَوحت لها بالرسوم وقصص الأَطفال التي أَحبَّها الكبار مع الصغار.
وإِلى كونها مثقَّفة وفنانة وناشطة نسائية كانت أَيضًا ذات نشاط تجاري وبيئي قبل أَن تنتشر الجمعيات البيئيّة.
وحين توفيَت عن 77 سنة (22 كانون الأَول/ديسمبر 1943) كانت اشترت أَكثر من 1600 هكتار أَهدتْها جميعها، مع كتُبها ورُسومها وشخصياتها ومخطوطاتها، إِلى جمعية “الإِرث الوطني” للحفاظ على التراث، موصيةً بأَنها “لصالح الأَجيال المقبلة”.
شهرة بعد الغياب
لم تكن بياتريكْسْ تحب الظُهور في الصحافة، فغابت ولم تهنأْ برؤْية كتُبها (وخصوصًا قصص “الأَرنب پيتر”) مترجَمة إِلى 35 لغة في نحو 150 مليون نسخة، ولا بتحوُّل قصتها عن الأَرنب إِلى السينما في فيلم “الآنسة پوتر” (2006) من بطولة رينيه زيلْويغر وإِخراج الأُسترالي كريس نونان. وقبل سنوات صدرَت مؤَلفاتها الكاملة بالفرنسية لدى غاليمار في باريس. وما زالت قصص “الأَرنب پيتر” ورفاقه اللطاف حلمَ الأَطفال وقبْلهم أَهاليهم.
واليوم ما زال بيتها، في ذاك الريف الهادئ، مَحجًّا للسيَّاح يزورونه مستذكرين كاتبةً لوَّنت طفولتهم بقصصها الطريفة.
لكنَّ سيرتها، كامرأَة صامتةٍ أَنطقَت الحيوانات قصصًا جميلة، تبقى هي الأَجمل والأَلطف من كتاباتها اللطيفة.
وإِذ حَرَمَتْها الحياة نعمةَ أَولاد يَرِثُون اسمها، أَورثَت بِاسمِها ملايينَ الأَولاد قصصًا تبقى في ذاكرتهم أَجملَ ما في طفولتهم من ذكريات. لذا قلتُ في مطلع هذا النص إِنَّ بياتريكْسْ پوتر قهَرت قدَرها بما هو أَقوى: مؤَلفات أَوفى من الأَولاد وأَقوى من القدَر.
كلام الصُوَر
- بياتريكْسْ پوتر ووليام هيليس: آمن بنشاطها حتى… الزواج
- بياتريكْسْ بثوبها الطويل والقبَّعة-الجرَس
- بياتريكْسْ مع كلبَيْها الصغيرَين
- قصة الأَرنب پيتر – الطبعة الأُولى 1902
- الأَرنب پيتر بالثوب الأَزرق
- قصة فأْرتَين مشاغبتَين
- قصة البطَّة جيمينا