هنري زغيب
اليوم الجمعة (10 أَيلول/سپتمبر) افتتاحُ معرض استثنائي كبير لثلاثين لوحة من أَعمال الرسام الفلورنسي بوتيتْشِلّي (1445-1510) مجموعةً من متاحف اللوڤر ولندن وأَمستردام والڤاتيكان وفلورنسا وبرلين، سيضمُّها حتى 24 كانون الثاني/يناير 2022 متحفُ جاكمار-أَندريه (بولڤار هوسمان – الدائرة الثامنة – پاريس).
احتفاءً بهذا الحدث التاريخي أَصدرَت مجلة “الفيغارو“ هذا الأُسبوع عدَدًا خاصًّا عنه بمقالات ودراسات ومجموعة صوَر بين أَبرز روائعه.
من مغمور إِلى مشهور
في 164 صفحة زاخرة بجمال لوحاتٍ وأَناقة إِخراجٍ وغنى نُصوصٍ من خبراء عالميين، يجيْءُ هذا العدد (توازيًا مع المعرض الكبير) تكريمًا لائقًا بذاك “المغمور” من مطالع النهضة الفنية الإِيطالية، بعد وفاته غامَت لوحاته ثلاثة قرون في النسيان حتى ظهرت عند منتصف القرن التاسع عشر (لندن 1848) مجموعةُ “ما قبل الرافائيلية” (شعراء ورسامون ونقاد إِنكليز) أَعادت أَعماله إِلى الظُهور والتداوُل بما جعل لوحات ساندرو بوتيتْشِلّي فجرَ النهضة الإِيطالية.
وأَكثر: حمل غلاف “الفيغارو” تحت اسم بوتيتشِلّي عبارةً ذاتَ دلالة: “كلُّ جمال العالم”، أَوضحها رئيسُ التحرير ميشال دوجاغير بأَن “بوتيتْشِلّي، في فلورنسا الميديتشيَّة، كان رسام الجمالات القلقة بما في ريشته من رهافة وبراعة نادرتَين في تلك الحقبة من مطلع النهضة، كرَّسَتَا جمال الشكل مُعيدَتَين إِياه من عصره اليوناني الذهبي، مختلفَتَين عنه بمسحة من الحق والخير لم تكُن قبلذاك في أَعمال القرون الوسطى الأُوروپية”.
ممتاز “الفيغارو”
ينقسم هذا العدد الممتاز إِلى أَربعة أَبواب: الفنان والمصمِّم، مسيرة وَلَد عبقريّ، كلُّ جمال العالم، الجَنى التوسكانيّ. وتتميز النصوص بكاتبيها المختصين في النهضة الإِيطالية وخصوصًا أَعمال بوتيتْشِلّي. ففي ملف أَعده الناقد مكسيم دوربيرغ، المتخصِّص بعصر النهضة، تابع مسيرة الفنان منذ طفولته التاعسة في أَسرة دبَّاغين فلورنسيين، وكان طفلًا سقيمًا خسِعًا حتى سماه ذووه “بوتيتشِلُّو” أَي “البرميل الصغير”.
كان توتُّره جنينَ ما سيكونه لاحقًا من رسام عبقري. فحين اكتشف كتاب “في الرسم” لِـلِيون باتيستا أَلبرتي (1404 – 1472) الصادر باللاتينية سنة 1435، وجد أَنه اكتشف طريقه إِلى عالم الريشة. وسجَّل أَول خطوة له في طريق الشهرة نهار السبت 18 حزيران/يونيو 1470 حين وقَّع أَول عقْد للرسم مع جمعية التجار أَنتج بموجبه لوحة “القوة” لتُزيِّن القاعة الكبرى في “مجلس التجارة”. جاءت رائعةً لفتَت إِليه أنظار النقاد والمعنيين فتوالت العقود لديه وأَخذ يسطع في محيطه وسائر إيطاليا.
غير أَن قمة سطوعه راحت تتوهَّج منذ دخوله أَوساط آل ميديتشي المصرفيين الأَثرياء، ما أَوصله إِلى أَن يطلب منه البابا سِكتوس الرابع المشاركة في رسم لوحات كاتدرائية سيستينا في الڤاتيكان، فكان ذلك مجدًا له كبيرًا وضعَه في مرتبة واحدة مع عباقرة الريشة في عصره. ومع انتهاء جدرانيات الكنيسة سنة 1482 فضَّل البابا عليه الرسامَ روسيلي، فحنقَ بوتيتْشِلّي وغادر روما.
وبعودته إِلى مدينته الأُم فلورنسا، وقَّع في السنة ذاتها عقْدًا لرسم لوحة “الربيع”، جاءَت رائعة عصرها، استلهم لها قصائد الشعراء القدامى ليُطْلع وجهًا للحُب جديدًا جسَّده في جمال “سيمونيتا” جميلة تلك الحقبة.
مطالع السُطُوع
بعد سنتَين (1482) وضع رائعته الأُخرى “ولادة ڤينوس” التي خلَّدَتْه وهو بعدُ في التاسعة والثلاثين. وظلَّت شهرته تتَّسع، وأَعمالُه تنتشر وتتوالى عليه الطلبات حتى آخر رسم: “زيارة الملوك المجوس مغارةَ الطفل يسوع”، وشاء يهديها إِلى ليوناردو داڤنتشي، لكنه لم يكملْها، وراح ينطفئ تدريجيًّا حتى غاب سنة 1510 ليغيب بعدها في النسيان ثلاثةَ قرون لاحقة.
وتروح نُصوص أُخرى، في هذا العدد الخاص، تُضيْء على عبقرية بوتيتْشِلّي في لوحاته الساحرة ذات الأَلوان النضرة والحوريات الرائعات الجمال، وفي طليعتهنَّ ڤينوس ذات الجسد النموذج، خلف نظرة الحجاب الشفاف، وسيدات أُخريات في لوحات أُخرى لهنَّ نظرة رقَّة وحنان، مع أَن مزاج الرسام لم يكن بهذه الرقة بل كان قلقًا، متوترًا، نهمًا إِلى المعرفة والاطِّلاع، ساعيًا إِلى جعل الرسم على مستوى الشعر إِدهاشًا، ميالًا إِلى المشاعر الإِنسانية النبيلة تأَثُّرًا بنفسية لورنزو دو ميديتشي أَن يجمع الجمال الطبيعي إِلى الحكمة القديمة إِلى عظمة الأسرار الكبرى. من هنا استلهامه الأَساطير القديمة والشخصيات الميثولوجية.
براعة التفاصيل
ومن علاماته أَنه كان تفسيريًا موضِحًا كُنه الأَفكار التي كانت تُعطى له كي يرسم لوحاته. كانت فيه روح تتنفَّس الجمال. وهذا ما بدا واضحًا في لوحتَيه عن ڤينوس وهو ضمَّنها الكثير من الأَسرار خلف الخطوط والأَلوان. ويبقى راعيه لورنزو دو ميديتْشي (لورنزو الرائع) راعيه في كثير من اللوحات، خصوصًا تلك التي فيها مجاميع كثيرة. ومن خصائصه الدقةُ في التفاصيل الصغيرة ضمن المجموع الواسع، ما كان جديدًا في فلورنسا عصرئذٍ، فهو برع في رسم الوجوه التي كانت تَظهر فيها نفسيةُ الوجه أَكثر من مجرد ملامحه الجسدية. وهو ما يتضح في صمت لوحاته “الأَبلغ من كلّ نُطق”.
وكان طبيعيًّا ختامُ هذا “العدد الممتاز” بما لحق الفنان من غُبن ثلاثةَ قرونٍ لاحقةٍ غيابَه، قبل أَن يُشعل أُوروپا كُلَّها بأَعماله المكتشَفَة، حتى سماهُ “ساندرو الإِلهي” و”الفنان الكامل” شعراء ورسامو مجموعة “القبْرَافائيليين” وجعلوه نجم جمالياهُم التشكيلية.
ومن حبِّه معادلةَ الرسم بالشعر، وضْعُهُ نحو سنة 1880، بناءً على طلب لورنزو دو ميديتْشي، رُسُومَ رائعة دانته “الكوميديا الإِلهية”، تخليدًا ذاك الشاعر العبقري الذي لي موعدٌ عنه معكم الأُسبوع المقبل في “النهار العربي”، احتفاءً بالذكرى 700 لغيابه (1321-2021).
كلام الصُوَر:
- من روائع بوتيتْشِلّي: “مرآة ڤينوس”
- بشارة مريم
- لوحة “القوة” منطلق شهرته
- تقْنيَتُه في رسم الجمال
- “الفيغارو” – غلاف العدد الخاص
- بوتيتْشِلّي بريشته