هي ليست مجرد مكتبة تجارية (لبيع الكتب) ولا مكتبة عامة (لقراءتها الصامتة)، ولا مقهى رصيفي (للتفكهة والتسلية).
إِنها واحة ثقافية عريقة من أَندر وأَعرق ما في العالم الثقافي.
قبل أَيام، صدرت الصحافة الفرنسية وعلى صدر صفحاتها: “مكتبة شكسـﭙـير ورفاقه تطلق صرخة الاستغاثة”.
أَقول “… ورفاقه” احترامًا هويتَها الثقافية، ويمكن أَن أَقول “… وشركاه” احترامًا لحرفية اسمها الأَصلي:
(Shakespeare and Company)
ولـمَ الاستغاثة؟ هي ذي مديرتُها سيلـڤـيا ويتمان تصرِّح لجريدة “الغارديان” قبل يومين: “خسارتُنا بلغَت 80% منذ بدء الموجة الكورونية الأُولى، حين أَطَعْنا تعليمات الحكومة وأَقفلْنا شهرين كاملين. لم نَبِع حتى إِلكترونيًّا، احترامًا قرارَ نقابة المكتبات الفرنسية. استنفدنا جميع احتياط مدَّخراتنا التي جمعناها طيلة سنوات، استنفدنا الدعم الذي جاءَنا من الدولة، ولم نَعُد نملك ما به نكمل. حتى الإِيجار نؤَجِّله منذ أَشهر، ونعجز عن تسديده. ومع هذا الإِقفال الجديد وحجْر المواطنين، نحن مقبلون على التوقُّف طويلًا، والأَرجح على الإِقفال النهائي”.
ما الذي جعل الصحافة الفرنسية تنشر بارزًا خبرَ الإِنذار؟
إِنها عراقة المكان، وإِنه تاريخه الحافل بروَّاد غير عاديين، مؤَلفين ومفكرين وسيَّاح وزوار كم كانوا يملأُون باحة المكتبة، مجاميع لدخولها وشراء كتبها النادرة، أَو صفوفًا للإِصغاء إِلى أُمسية شعرية لشاعر كبير، أَو إِلى لقاء مع كاتب شهير.
كان ذلك من مئة سنة
سنة 1916، إِبَّان الحرب العالمية الأُولى، جاءت إِلى ﭘـاريس السيدة الأَميركية سيلـڤـيا بيتش من مدينتها بَالتِمور (ولاية ميريلند)، وشاركت السيدة أَدريانّ مونييه في مكتبتها طيلة ثلاث سنوات، ثم تركتْها وأَسَّست مكتبتها الخاصة سنة 1919 في شارع دوﭘْـويتْرِن (حي الأُوديون – الدائرة السادسة) وسمَّتها “شكسـﭙـير وشركاه” (أَو”… ورفاقه”)، ثم انتقلت بها إِلى شارع الأُوديون الرئيس. ولأَنها كانت تُزمع امتهان نشْر الكتب لا بيعها وحسب، استقطبت إِليها كبار أُدباء العصر الأَميركيين، بينهم: إِزرا ﭘـاوند، إِرنست همنغواي، جيمس جويس، سكوت فيتزجرالد، ت.س. إِليوت، آلِن غينسبُرغ، وأَدباء فرنسا الكبار، بينهم ﭘـول ڤـاليري، أَندريه جيد، جاك لاكان وآخرون. وكانت مغامرتها الأُولى في النشْر سنة 1922 إِصدارها (بالإِنكليزية) رائعة جيمس جويس “أُوليس”. مُنِعَت الرواية في الولايات المتحدة لاعتبارها “فاحشةً ومُخِلَّة بالآداب”، ما زاد في رواجها وإِعادة طبعها مرارًا. وبقيَت سيلـڤـيا تدير المكتبة جاعلة منها، طوال الفترة بين الحربين، مركز الثقافة الأَنكلوساكسونية في ﭘـاريس. وكان روَّادها يستعيرون بعض الكتب، خصوصًا المحظَّرة، مثل رواية “عشيق الليدي تشاترلي” التي مَنعَت دخولَها إِنكلترا والولاياتُ المتحدة. وذات فترة من 1933 وقعَت المكتبة في صعوبات مالية فأَسَّس لها أَندريه جيد “حلقة أَصدقاء مكتبة شكسـﭙـير وشركاه”، دعموها كي تستمر، ودعَمَها متموِّلون أَميركان بينهم: هيلينا روبنشتاين وآنّا مورغان. وظلَّت سيلـڤـيا تديره بهذه الشهرة حتى كانون الأَول 1941 حين أَقفلتها بسبب الاحتلال الأَلماني. وبقيَت المكتبة مغلقة سنوات طويلة.
مواصلة الرسالة
سنة 1946 جاء من مدينة سالم (قرب بوسطن، ولاية ماساشوستس) خريجُ جامعة بوسطن جورج ويتمان، وتسَجَّل في جامعة السوربون ليدرس الحضارة الفرنسية. وهو مثقَّفٌ هاوٍ جمْعَ الكتب وشراءَها، راح يكدِّسها في شقته الـﭙـاريسية الصغيرة حتى غطَّت منها جدرانها الثلاثة. وإِذ ورِثَ مبلغًا من المال، اشترى به من تاجر عربي محلَّه الواسع قليلًا على الضفة اليُسرى من نهر السين، أَسس فيه مكتبةً نقل إِليها الكتب (نحو 1000) من الشقة الصغيرة، وراح يتعامل بالكتب بيعًا وإِعارة. سمّى مكتبته “الميسترال”. وعند وفاة سيلـڤـيا بيتش (1962)، ووفاءً لذكرى مواطنته الأَميركية وأَثرها في الأَوساط الـﭙـاريسية، تبنّى اسم مكتبتها “شكسـﭙـير وشركاه”، وجعل يستقطب لها أُدباء وشعراء أَميركيين في فرنسا، وأُدباء فرنسيين معروفين، بينهم أَنايـيس نين، جيمس بالدْوِين، لورنْس دوريل، وسواهم، فكانت ملتقاهم بصورة دورية دائمة، ينظِّم لهم جورج لقاءات وأُمسيات وندوات. وباتت المكتبة مركزًا ثقافيًّا رئيسًا في ﭘـاريس تردَّدت شهرته في كل فرنسا، ما جعل وزير الثقافة يمنح صاحبَها سنة 2006 “وسام الآداب والفنون”، وهو أَعلى وسامٍ رتبةً في فرنسا من وزارة الثقافة.
لم يرزَق من زواجه سوى ابنة وحيدة، وُلدَت سنة 1981 سمَّاها سيلـڤـيا (وفاءً كذلك لذكرى المؤَسِّسة سيلـڤـيا بيتش). ونشأَت الصغيرة منذ طفولتها في جو المكتبة، وأَحبَّت هذا الجو فكانت تُمضي ساعات فيها تشاهد وتراقب وتأْنس إِلى أَجوائها الأَدبية، خصوصًا أَن السكَن كان في الطابق الأَعلى من المبنى الذي فيه المكتبة. وكان طبيعيًّا أَن تتولى إِدارتها بعد وفاة والدها في 14 كانون الأَول 2011 قبل سنتَين من بلوغه المئة (من مواليد نيوجرزي – 12 كانون الأَول 1913).
… وكانت الجائحة
بقيَت سيلـڤـيا ناشطة، على نهج والدها، فجعلَت تُنظِّم ندوات ومهرجانات أَدبية وحلقات أُسبوعية لقراءات عامة تليها مناقشات. وأَسسَت سنة 2010 “جائزة ﭘـاريس الأَدبية”، ما جعل المكتبة واحةً ثقافية مضيئة ناشطة ساطعة في أَوساط ﭘـاريس الأَدبية والصحافية والفكرية، يُساعدها موقعها في الدائرة الخامسة، على أَمتار قليلة من كنيسة نوتردام، وسط حي سان ميشال، على خطوات ضئيلة من ضفة السين اليسرى، وخاتمةَ نُزهةٍ هانئة في الحي اللاتيني.
كان دأْب سيلـڤـيا أَن تجعل مكتبتَها محور لقاءَات دائِمة متواصلة بين الكاتب والكتاب والقارئ. ولكن الجائحة اجتاحت جميع الآمال، وثَقُلت كثيرًا على الوسط الثقافي الذي اعتبرت الحكومة أَن مؤَسساته “ليست أَساسية” فحجَرت عليه بكل قسوة، وأَقفلَت مكتباته التي كانت أَصلًا تئِنُّ من شح روادها، إِلى أَن صرخت سيلـڤـيا ويتمان قبل أَيام بأَعلى أَسطرها على صدر الصحافة الفرنسية طالبةً نجدةً لاستغاثتها، رعبًا من أَن يطول الإِقفال، ويطول السكوت بين أَروقة المكتبة وفي باحتها ومقهاها الرصيفي، فتَذبل الكتُب من الحزن، وتضطر إِلى إِقفالها نهائيًّا على بُعد أَسابيع من احتفالها بالذكرى السبعين لتأَسيس هذه “اللؤْلؤَة الثقافية” التي كان والدُها فتح بابها للمرة الأُولى ذات يوم سعيد من 1951.
كلام الصُوَر
سيلـڤـيا ويتمان أَمام مكتبتها
هل تبقى هذه الأَبواب مقفلةً نهائيًّا؟
جموعٌ أَمام المكتبة لحضور لقاء أَدبيّ
كنوز “الكُتُب النادرة“