“لأَجلكم يا إِخوتي أَنا أَكتب…
لأَجل أَنهار من الدماء تجري إِلى ملاجئَ مخفيَّة
لأَجل جَدٍّ عتيق يردد الأُغنية ذاتها ليلًا نهارًا
ولأَجل الطرُق التي جمعتْنا منذ سنوات قبل أَن نلتقي…”
هذه القصيدة للشاعرة الفلسطينية الجذور الأَميركية المولد نعومي شهاب ناي (مولودة في سانت لويس – ميزوري 1952) تختصر الكثير من مآسي العرب الذين يحاولون أَن يجدوا متسعًا لهم في المهجر الأَميركي. وكذا نجد في قصائد ومقطوعات أُخرى من كتاب “أنطولوجيا الأَدب الفلسطيني الحديث” تحرير سلمى الخضراء الجيوسي (منشورات جامعة كولومبيا – الطبعة الثانية 1992).
وهذا المنحى ذاتُه يَظهر في كتاب “أَوراق الدالية” لغريغوري أُورفيليا وشريف الموسى (منشورات جامعة يوتا – 1988)، أَو في رواية “أَولاد الرُجمة – هجرة عائلة من جبل لبنان إِلى ﭘـنسِلڤانيا” للكاتبة اللبنانية الجذور الأَميركية المولد أَلماز أَبي نادر (منشورات نورتُن – نيويورك 1991)، وفيها تَسرد الكاتبة (مولودة في ﭘـيتسبورغ – ﭘـنسِلڤانيا 1954): “تذكارات حنين في ذاكرة مَن انسلخوا مِن جذورهم وحياتهم الهانئة، وقاسوا ويلات الحرب العالمية الأُولى، وظلْم الأَمبراطوية العثمانية، فغادروا قراهم العريقة الأَرض والتاريخ، وجاؤُوا إِلى العالم الجديد فواجهوا صدمة المواجهة مع تقاليد جديدة وبيئة غريبة”.
من الغُربة إِلى الدُربة
هذا المناخ من التحليل والمنحى الاستعادي تذكاراتٍ وحنينًا، يُبرزه الكتاب الجَماعي “العرب في أَميركا – بناء مستقبل جديد”، نسَّقه وقدَّم له مايكل وديع سليمان (1934-2010)، تَظهر فيه هذه الفروقات الإِثنية التي سعَت وما زالت تسعى إِلى تثبيت حضور لها في المجتمع الغربي عمومًا والبيئة الأَميركية خصوصًا.
وفيما الرئيس الأميركي ترامـپ أَبدى منذ تولَّى رئاسته منحى ابتعاديًّا عن بعض الدول العربية، ربما بسبب عقدته من “الإِسلامُوفوبيا” أَو “العَرَبُوفوبيا”، أَظهر العرب في أَميركا، وما زالوا يُظهرون حضورًا لافتًا في أَميركا، من نجاح إِلى نجاح، ومن مستقبل نضر إِلى مستقبل زاهر يحقِّقه أَميركيون من جذور عربية، تأَقلموا في بيئتهم الجديدة، وبرعوا فيها ونفعوها وأَفادوها، من دون تنكُّرهم لجذورهم العربية التي منها تحدَّروا وجاؤُوا إِلى الديار الأَميركية يَعملون ويُسهمون في نهضتها من كل حقل وميدان.
الظاهرة التي يُعالجها هذا الكتاب (منشورات تامـﭙـل الجامعية – 1999، وصدرت هذا الشهر طبعته الثانية 2020) أَضاء عليها مايكل سليمان في مقدمة الكتاب حول “تجربة المهاجرين العرب” بأَن المجتمع في أَميركا الشمالية “بقي طويلًا مُنْكِرًا العرب فيه حضورًا فاعلًا بل مُثمرًا ومُسهمًا بشكل فاعل في بُنية هذا المجتمع”. ويميِّز مايكل سليمان بين موجتَين من الهجرة العربية إِلى أَميركا: “الأُولى من 1870 إِلى الحرب العالمية الأولى، والأُخرى بعد هذه الحرب حتى العصر الحديث. وتتميز كل كتلة عربية مهاجرة بخصائص جعلتها تواجه في المجتمع الأَميركي تحدي صعوبات على المستويين الاجتماعي والسياسي، حتى فلا يمكن النظر إِلى تينك الهجرتين إِلَّا من تلك التحديات المرهِقة”.
من طبرية إِلى كانساس
مايكل وديع سليمان وُلد في طبرية، وإِثْر تهجير 1948 انتقل إِلى الأُردن ومنه إِلى إِنكلترا سنة 1955، ومنها إِلى الولايات المتحدة سنة 1956 ليحوز الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة وسكونسن وينتقل منها سنة 1965 إِلى جامعة كانساس التي تدرَّج فيها من أُستاذ مساعد (1965) إِلى أُستاذ متفرغ (1972) فأُستاذ شرف (1990) وبقي فيها حتى وفاته، ثم أَنشأَت الجامعة على اسمه كرسيًّا أَكاديميًا للدراسات سنة 2015.
تلك التنقلات من بيئات عربية إِلى البيئة الأَميركية أَتاحت لسليمان فهمًا موسعًا تلك التحديات التي واجهها العرب في هجرتهم إِلى أَميركا الشمالية، وانغماسهم حيثما حلُّوا في أَلوان مجتمعية متنوعة طال الوقت حتى تأَقلموا فيها لكنهم اندمجوا في تلك التكتلات الأَميركية الصغيرة المتكونة أَصلًا من مجموعات مهاجرين توافدوا عبر الحقب من أَصقاع الدنيا.
في تحديد ذلك، يرى سليمان أَن عبارة “العرب الأَميركيين” تعني المهاجرين الأَوائل إِلى أَميركا الشمالية من البلدان العربية في الشرق الأوسط وتاليًا تعني أَجيالهم المولودة على الأَراضي الأَميركية، ومعظمهم جاؤُوها من لبنان ومصر والعراق وسوريا، ومن فلسطين ما قبل 1948″. وهو يرى أَن “الموجة الأُولى من الهجرة إِلى أَميركا كانت من سوريا الكبرى وخصوصًا من جبل لبنان، ومعظم المهاجرين كانوا من المسيحيين، فيما الموجة التالية شكَّلها المهاجرون من سائر العالم العربي، وتحديدًا من فلسطين ولبنان وسوريا ومصر والعراق واليمن، ومعظمهم من المسلمين السُنَّة مع أَقلية شيعية. ولم تُلحظ الهجرة الدرزية إِلَّا في أَواخر القرن التاسع عشر”.
ويوضح سليمان أَن “كان يشار إِلى المهاجرين العرب، قبل الحرب العالمية الأُولى، بأَنهم سوريون، أَو سوريون-لبنانيون، وبعدها راجت التسمية بأَنه عرب أَو عرب-أَميركيون. وحتى مطلع القرن العشرين، كانوا يُدمجون مع سائر المهاجرين اليونان والأَرمن والأَتراك، حتى كانت هوياتهم الأَصلية تضيع في تلك التسميات”. وعن الإِحصاءات الأَميركية أَن العرب-الأَميركيين كانوا حتى أَواخر الثلاثينات نحو 130 أَلفًا، تزايدوا حتى 350 أَلفًا عشية الحرب العالمية الثانية”.
الصفحة الجديدة والصحافة
ويحدد سليمان في مقدمته أَسباب الهجرة السورية اللبنانية أَنها كانت “بسبب الضيق الاقتصادي الخانق في جبل لبنان، لسببين: الأَول كان افتتاح قناة السويس، حين تحوَّلت طريق السفر عن سوريا إِلى مصر وسهُل السفر إِلى الشرق الأَقصى فأَخذ الحرير الياباني يغزو الأَسواق، ما أَذى مباشرة صناعة الحرير في لبنان، والسبب الآخر كان اجتياح سوسة الفيلوكسيرا الكروم اللبنانية في تسعينات القرن التاسع عشر فيبست الدوالي وتوقَّفت المعاصر”. ومع ازدياد السكان، وانهيار القطاعين الزراعي والصناعي، توجَّه الشبان اللبنانيون إِلى العالم الجديد يبحثون فيه عن مستقبلهم أَملًا بالعودة إِلى الأَرض الأُم لكنهم لم يعودوا، خصوصًا بعدما ازداد التضييق على الحريات تحت نير السلطنة العثمانية في البلاد”.
وزاد من ترسُّخهم ظهور الصحافة العربية في أَميركا موثِّقةً الحضور العربي، منذ “كوكب أَميركا” (1892) للأَخوين السوريين نجيب وابرهيم عربيلي، وهي انطلقت مؤَيدةً الحكم العثماني، فقامت جريدة “الهدى” (1898) للُّبناني نعوم مكرزل تناهض السلطة العثمانية وتطالب باستقلال لبنان.
كسر الصورة النمطية
هكذا يحفل كتاب مايكل سليمان “العرب في أَميركا” بهذه الدراسات الواسعة التحليل والوقائع، عبر نصوص أَكاديمية موثقة وضعها كاتبوها من جامعات مختلفة، فعالجت مي صيقلي “الجالية الفلسطينية في ديترويت”، وكتب ريتشارد أَنطون عن “الجالية الأُردنية في تكساس وأُوهايو”، ودرست ليندا وُولبردج “الشيعة المسلمين في الولايات المتحدة”، وكتبت فاطمة آغا الحياني عن “العرب والنظام الأَمريكي والتشعبات الثقافية والسياسية”، وحلَّلت كريستين عجروش شؤُون “العائلة والهوية الإِثنية في الجوالي العربية الأَميركية”، وأَظهرت لوري سالم دور “وديعة عطية وصورة العرب في المسرح الشعبي الأَميركي بين 1930 و1950″، وكذا أَظهرت سائر النصوص في الكتاب (22 دراسة) أَهمية الحضور العربي في أَميركا ودوره الرئيس في نهضة المجتمع الأَميركي، وسيطِه والحديث.
وكان دأْب مايكل سليمان، طوال حياته الجامعية والتأْليفية كما في جميع خُطَبه ومحاضراته، أَن يُظهر هذا الدور وجوهر العلاقة الوثقى المفيدة المثمرة بين العرب والأَميركيين، محاولًا نزع الصورة النمطية التي كان لدى الأَميركيين عن العرب المهاجرين، فكان تأْثيرُه الأَكاديمي بالغًا وحضورُه عاليًا في تنصيع دور العرب الذين اندمجوا في المجتمع الأَميركي فبرعوا فيه، وكان منهم أَعلام في العلوم والفنون يغنَمُ منها اليوم المجتمع الأَميركي، بعيدًا عن التنميط المجحف في حق العرب.
كلام الصور
مايكل وديع سليمان
غلاف الكتاب