تنقضي الأَوبئة والجوائح وتبقى في ذاكرة الأَعمال الفنية والأَدبية
هنري زغيب
تمضي الخوارق والفواجع، تزول الجوائح والأَمراض، تنقضي المصائب والحروب والفتن، وتبقى أَصداؤُها تتردَّد في قصيدةٍ، في لوحة، في تمثال، في سمفونيا، في مسرحية، في فيلم، … وتظل خالدةً ما خَلَد الإِبداع في ذاكرة المستقبل.
وحدَها الآثار الأَدبية والفنية حافظةٌ هذه الذاكرة.
الجائحة الكورونية التي تقضم اليوم أَرواحًا من كل بقعة على هذا الكوكب، تُرعب الناس على مساحته المترامية، وبعض الخوف أَنها جاثمة على الباب حتى فلن يخرجَ منه حيًّا أَحد. ويزيد من رعب البشرية اليوم، أَصداءُ أَنَّ هذه الجائحة قد تتواصل أَشهرًا طويلةً بعد، وقد لا تتوصل مختبرات العلْم إِلى استنباط لقاح له قبل منتصف العام المقبل، فيكون مَرَّ عليه عامٌ وبعضُ العام في “ضيافة” كوكبنا. غير أَنَّ استمرار الجائحة الكورونية طويلًا ليس يعني أَنْ لا خلاص منها. فالتاريخ حافلٌ قديمًا بأَوبئةٍ وجوائحَ استمرَّت سنواتٍ متتاليةً مطاطةً، أَكثرَ شراسةً وغموضًا وافتراسًا ملايينَ لم يتمكَّنوا في زمانهم من بلوغ اللقاحات والعلاجات والتدابير الوقائية.
من ذاكرة التاريخ
من أَبرز الجوائح القاتلة التي خلَّفت أَزمات وضحايا ومرضى ومشرَّدين ولاجئين ونازحين ومشوَّهين جسديًّا ونفسيًّا: الطاعون الأَسْوَد الذي هشَّم أُوروﭘـا وآسيا وشمالي أَفريقيا بين عامَي 1347 و1351، وهو في رأْي العارفين الخبراء أَشرسُ وَباء عرفته البشرية في كل تاريخها الجلي، سبَّبَ موت الملايين اختناقًا وسُعالًا وآلامًا مُضْنية في الصدر.
ومن هذا الوباء: طاعون يوستينيانوس الذي ضرب الأَمبراطورية البيزنطية بين عامي451 و452، مجتاحًا قسطنطينِيَّتَها بشكل فاجع، مبيدًا ربع سكان البلاد على الأَقل، مصيبًا حتى يوستينيانوس فسُمِّيَ الوباء باسمه.
وقبله كان الطاعون الأَنطونيوني، بين عامي 165 و180، سُمِّيَ هكذا نسبة إِلى مارك أَنطونيو. وهو فتَك بالبلاد فجعلَها طيلة سنواتٍ في مآتم ونُواح متواصل.
ومن الأَوبئة الشبيهة الأُخرى: طاعون شيروَى الرهيب الذي كان، بين عامي 627 و628، أَقسى ما عرفَت بلاد فارس من أَوبئة. اجتاح معظم الأَمبراطوية الساسانية حتى بلاد ما بين النهرين، وكان سببًا رئيسًا في سقوطها. يُعزى سببُه إِلى أَن الجنود الفرس حملوا جرثومته معهم لدى رجوعهم من حملات القسطنطينيَّة وسوريا وأَرمينيا.
ومن تلك الأَنواع الشرسة أَيضًا: طاعون أَثينا (429 – 427 ق.م.). كان في زمانه مزيجًا من التيفوس والتيفوئيد والحمَّى الخبيثة، وبلغَت قسْوتُه أَن خرج الناس على القوانين وحتى على الإِيمان، لشدَّة كفْرهم بكل شيْءٍ يأْسًا ورعبًا. وهو انتقل من الحبشة إِلى مصر فليبيا حتى بلغ أَثينا فيما كانت تحاصرها سبارطة، فقضى على ثلث المدينة (نحو 200 أَلف نسمة) وكانت بداية سقوط أَثينا.
في ذاكرة الأَدب والفن
في الكلام على ما ذكرتُه أَعلاه عن دخول الجوائح الأَعمالَ الإِبداعية، هي ذي جائحة طاعون أَثينا خالدة في لوحة “طاعون أَثينا” (1635) للرسام الفرنسي فرنسوا ﭘـيريـيـه (1594 – 1649)، مؤَسس الأَكاديميا الملكية للرسم والنحت، وأَبرز فناني القرن السابع عشر.
ولنا في الكثير من روائع الفن والأَدب ذاكرةٌ للجوائح التي ضربَت الكرة الأَرضية في مراحل منها كثيرة. مضَت الجائحة وبقيَ الأَثر الإِبداعي.
فمع انفجار الكورونا وباءً عالميًّا في آذار الماضي، راج الإِقبال على رواية أَلبر كامو Camus “الطاعون” (1947) عن هذا الوباء الذي ضرب مدينة وهران الجزائرية سنة 1944. وكانت هذه الرواية عنصرًا رئيسًا ساهمَ في نيل كاتبها “نوبل” الأَدب (1957).
والتاريخ غنيٌّ بدَور الأَدب والفن تسجيلًا وقائعَ كبرى في العالم، وتخليدَها في أَثرٍ أَبقى من ذكْره صحافيًا راهنًا أَو تأْريخيًّا لاحقًا. من تلك الوقائع: أَوبئة كالجدري والطاعون والكوليرا والسلّ والإِنفلونزا الإِسـﭙـانية وحُمَّى الإِبُولى، وهي فتكَت بالشعوب في بلدانِ انتشارها أَو عمَّت الكوكب كلَّه كما الكورونا اليوم.
من تلك الآثار الخالدة فنيًّا: لوحة “طاعون روما” (1869) للفرنسي جول دولوناي Delaunay، ولوحة “الفِلِسْتِيُّون في الطاعون” (1630) للفرنسي نيكولا ﭘـوسّان Poussin، ولوحة “طاعون أَثينا” (1652) للفْلامَندي مايكل سوِيرتْسSweerts ، ولوحة “الطاعون في مرسيليا” (1720) للفرنسي ميشال سير Serres ، ولوحة “دوق أُورليان يزور مرضى الكوليرا” (1832) للفرنسي أَلفرد جوهانو Johannot.
ومن الآثار الخالدة أَدبيًّا، ما صدَر عن وباء الكوليرا: فصل كامل في رواية ﭬـيكتور هوغو “البؤَساء” (1862) عن انتشار وباء الكوليرا سنة 1832 في ﭘـاريس، كرَّس له أُوجين سوSue روايتَه “اليهودي التائه” (1844)، وذكَره شاتوبريان في مذكِّرات “أَبعد من القبر” (1849)، وخصَّص له غوستاف فلوبير Flaubert قصتَه “القلب البسيط” (1877)، وتوماس مان Mann روايتَه “الموت في البندقية” (1913)، وجوزف دِلْتيل Delteil روايتَه “كوليرا” (1923)، وجورج دوهاميلDuhamel روايتَه “الأَمير جَفَّار” (1926)، وغبريال غارثيا مركيز روايتَه “الحب في زمن الكوليرا” (1985).
وللطاعون حضور كليّ أو جزئي في رواية البريطانية ماري شيلي Shelley “الرجل الأَخير (1826)، ورواية الأَميركي جاك لندن “الطاعون القرمزي” (1912)، ورواية الأَميركي الآخر ستيفن كنغ “الوباء” (1978)، ورواية الكندية إِملي مندل “المحطة الحادية عشرة” (2014) التي ختمتْها بعبارة: “انفجر الوباء حتى عمَّ الكرة الأَرضية، كما قنبلة نيترونية، فباتت الأَرض كلُّها دمارًا كارثيًّا هائلًا يعجز عنه كل وصف بقلم أَو بريشة”.
… وفي الأَدب اللبناني
ولم يغِب الأَدب اللبناني عن تسجيل فواجع الوباء في روائعَ أَدبية جرَت أَحداثُ بعضِها إِبَّان الحرب العالمية الأُولى، في طليعتها رواية توفيق يوسف عواد “الرغيف” (1939) وفيها سرد موجِع عن انتشار وباء الجدري في لبنان، وقصة سعيد تقي الدين “شيخ القافلة” (في مجموعته القصصية “غابة الكافور” – 1946) وفيها إِصابة أَبي سلمان بالتيفوس في بعقلين، وكان وباءً تفشَّى في لبنان إِبَّان الحرب لانتشار البراغيث السامَّة في أَجواء البلاد.
هكذا: في حضرة الأَدب والفن ومبدعيهما، بعدما تزول الكوارث باتساع انتشارها وآلاف ضحاياها، تبقى محفورةً في الزمان بين ذاكرةِ رواية وأَلوانِ لوحة، فتَدخل مرةً عمقَ الوجدان الإِنساني، وتَبلغ مرةً حدودَ الأَسْطَرَة والخيال الروائي فلا يعود نقلُها الواقعَ مجرَّدَ سردٍ مسطَّحٍ أَو انطباعيٍّ ليس يليق بالفن ولا بالأَدب.
هكذا: من وباء مُميتٍ تُولدُ الروائعُ الإِبداعية، فتخلِّدُ في نُصوصٍ أَدبية وأَعمالٍ تشكيلية يُبدعها خلَّاقون، حين يَمضون تبقى للإِنسانية آثارُهم في ذاكرة الأَجيال كلما انتشر في الأَرض وباءٌ يُهدِّد البشرية بضحاياه. وحين يغيب الوباء تُشرق شموس لا تراها الضحايا لكنها تبقى للتاريخ صباحاتٍ خالدةً تخُطُّها يراعةُ كاتبٍ مبدعٍ أَو ريشةُ رسامٍ عبقريّ.
كلام الصور
دوق أورليان يزور مرضى الكوليرا (1832)
الطاعون في روما (1869)
الطاعون في أثينا (1652)
الطاعون في مرسيليا (1720)
الفِلِسْتِيُّون في الطاعون (1630)