“المجهولة” فرجينا حلو “كاشفة” رسائل الحب بين جبران وماري هاسكل
هنري زغيب
خلتُني سأَفرغ من الصفحات الأَخيرة لكتابي التوثيقي الجديد (نحو 750 صفحة) عن جبران خليل جبران، وأَطوي آخر وثائقه الجديدة دون أَن أَتمكَّن من كشْف الغامض حول سيِّدة أَميركية باقيةٍ مجهولةً لي ولجميع مَن كتبوا عن جبران حتى اليوم.
إِنها ڤـرجينيا حلو.
سوى أَن فرصة انفتحَت أَمامي قبل أَشهر فتحَت لي حولها بعض ضوء، حين راسلَني أَميركيٌّ يعمل على كتابٍ عن جبران، عرَّف لي عن اسمه: دالْتون حلو أَينْهُورن، ذاكرًا أَنه ابنُ ڤـرجينيا حلو.
من هنا بدأَتْ تلْتمُّ الخيوط لنسْج صورة هذه السيِّدة التي جميعُ من درسوا جبران استعانوا بكتابها “النبي الحبيب: رسائل الحب بين جبران خليل جبران وماري هاسكل، ودفاتر يومياتها الحميمة”، ولم يَذكُر أَحدٌ منهم كلمةً واحدة عن منسِّقة الكتاب.
ماري هاسكل حافظة الإِرث
بعد وفاة جبران في نيويورك (الساعة 10:55 ليل الجمعة 10 نيسان 1931) وفتْح وصيَّته ( السبت 12 نيسان)، تبيَّن أَنه أَوصى بتركته المالية لشقيقته مريانا، بِرَيع مؤَلفاته لمدينته بْشَرّي، وتركته الفنية للسيدة ماري إِليزابيت هاسْكِل التي أَهداها (بعبارة “إِلىM.E.H ” ) بعض مؤَلَّفاته العربية.
في زيارة ماري هاسكل الأَخيرة محترفَ جبران (الاثنين 20 نيسان) وجدَت جميع رسائلها إِليه في صندوقة صغيرة قرب سريره، وكان محتفظًا بها طيلة سنوات مراسلاتهما معًا (23 سنة: 1908 – 1931). حزمَتْها واستقلَّت قطار الليل عائدةً بها جنوبًا إِلى بيتها في ساڤـانا (جورجيا)، تواصل حياتها الهادئة مع زوجها فلورنْس مايْــنِس (تزوَّجتْه سنة 1926). وهناك ضمَّت مجموعة رسائلها إِليه (290 رسالة) ورسائله إِليها (325 رسالة)، واحتفظَت بها وبمجموعة 47 دفتر يوميات هي مذكراتُها الخاصة عن علاقتها به وموجزٌ عن أَفكاره وأَحاديثه إِليها في مواضيع أَدبية وفكرية وعامة.
ظلَّت هذه “الثروة” الغالية لديها حتى 1959 حين شعرت بوَهْن في جسدها وذاكرتها، فأَرسلَت بمجموع الرسائل والدفاتر إِلى قسم “الوثائق النادرة” لدى مكتبة جامعة نورث كارولاينا في مدينة تشاﭘـل هِلّ، حيث لا تزال حتى اليوم محفوظةً ذخرًا ثمينًا تحت مراقبة مشدَّدة. بعد خمس سنواتٍ توفيَت ماري في مأْوى للعجزة (9 تشرين الأَول 1964).
التكليف فالتأْليف
بعد ثلاث سنوات (1967) كتب المحامي الياس شمعون بوكالته عن مريانا (شقيقة جبران) إِلى السيّدة ڤـرجينيا حلو يفوِّضها قانونيًّا أَن تذهب إِلى جامعة نورث كارولاينا حيث ستسمح لها الإِدارة بالدخول إِلى عشرات الصناديق المرقَّمة والمؤَرَّخة والمفَهرسة في مجموعة هاسكل/ماينِس، وفتْحها واقتطاف ما يشكِّل منها “تأْليف” مادة جديدة تصدر في كتاب. وكان شريكًا في التكليف كذلك السيد أَبراهام مايْنِس ابن شقيق فلورنس ماينس (كان تُوفي في 3 أَيلول 1936).
وهكذا كان: استأْذنَت ڤـرجينيا حلو مديرها لدى منشورات هارﭘـر (حيث كانت، بين أُولَيَات النساء في أَميركا، تعمل في تحقيق المخطوطات وتنسيقها وتحريرها وتنقيحها وإِعدادها للنشر)، وانصرفت إِلى فَضِّ رسائل جبران وماري ودفاتر مخطوطاتها، لتُصدر أَول كتاب عنها يكون مرجعًا أَولَ وأَساسيًّا للدارسات الجبرانية.
تلك كان شُهرة ڤـرجينيا حلو المهنيَّة في عالم النشْر. وكانت تتقن العربية ما ساعدها على بناء علاقة متواصلة مع مريانا جبران التي، رغم حياتها الطويلة في بوسطن (نحو 70 سنة) لم تكن تتقن الإِنكليزية.
من هي؟
عن دالْتون أَنَّ والدته ڤـرجينيا من أُصول لبنانية. جدُّها نسيم حلو، من شمال لبنان، وفي “مشتى الحلو” السورية فرعٌ من تلك العائلة. مع اشتداد الحرب العالمية الأُولى والخوف من “سفر برلك”، هرب نسيم وابنُه إِلى الولايات المتحدة وسكن في مدينة ﭘـيتسْبُرغ (ﭘـنسيلـڤـانيا). ومن زواج ابنِه وُلدَت ڤـرجينيا سنة 1929، وعاشت في أُسرة بقيَت تتكلم العربية إِلى اكتسابها لغة الأَميركان. بدأَت ڤـرجينيا حياتها المهنية تدريسًا، وتحريرًا في صحف محلية، حتى تمكَّنت من مهنة التحرير (editing) فـانتقلت إِلى نيويورك منتسبة إِلى مؤَسسة هارﭘـر (Harper)، إِحدى أَكبر دور النشر الأَميركية في تلك الحقبة (تأَسست سنة 1833). وبقيَت تعمل لديها طيلة حياتها، حتى وفاتها بالسرطان عن 47 عامًا سنة 1976.
في مكتبة جامعة نورث كارولاينا أَمضَت ڤـرجينيا أَربع سنواتٍ كاملة غارقة بين 10660 صفحة هي مجموعة جبران وماري، بين رسائل ومذكرات ويوميات وتدوين انطباعات. وإِذ لم يكن ممكنًا إِصدارُ تلك الصفحات جميعها لا في مجلد ولا في أَكثر، اختارت منها نحو 450 صفحة، نسَّقتْها وبَوَّبَـتْها وَفْق تسلسلها الزمني: الرسالة الأُولى من جبران في ﭘـاريس إِلى ماري (2 تشرين الأَول 1908)، والرسالة الأَخيرة من جبران في نيويورك إِلى ماري (16 آذار 1931، قبل وفاته بثلاثة أَسابيع).
سنة 1971 أَظهر التشخيص الطبي إِصابة ڤـرجينيا بالسرطان في الدماغ، ما قد يهدِّد صفاء تفكيرها وقدرتها على التركيز، لذلك راحت تستعجل مراجعة الأَوراق المتراكمة أَمامها قبل أَن يغدر بها السرطان.
الرسائل… كتابًا
عندما ارتأَت أَن تُنهي تلك الاختيارات، كتبَت ڤـرجينيا مقدمةً لها، جاء فيها: “اقتطفْتُ بين آلاف الأَوراق نصوصًا عالجتُها اقتطاعًا وتلخيصًا وصياغةً، وهدَفي تقديم مختارات تفيد المهتمِّين بهذا الموضوع. وغالبًا ما تركتُ قصة العلاقة بين جبران وماري كما هي بنقْل كلامهما حرفيًّا (…). لم أُشِر إِلى المحذوفات حيث لجأْت إِليها، فبعض الرسائل مثلًا من 18 صفحة، اختصرتُها إِلى صفحة أَو اثنتَين، فيما نصوصٌ أُخرى أَوردتُها حرفيًّا. وعرَّفتُ ببعض الأَسماء حيثما وجدتُ ذلك ضروريًّا لفهم النص (…). مَن يرغب زيادةً في التنقيب والدراسة، فَلْيَتَّجِه إِلى قسم المخطوطات النادرة في جامعة نورث كارولاينا”.
سنة 1972 تسلمَت المخطوطةَ في نيويورك مؤَسسة “كنوف” (ناشرة جميع مؤَلفات جبران الإِنكليزية منذ “المجنون” سنة 1918). صدرت الطبعة الأُولى من الكتاب بعنوان “النبي الحبيب – رسائل الحب بين جبران خليل جبران وماري هاسكل، ودفاتر يومياتها الخاصة” في 448 صفحة حجمًا وسطًا، فكان رواجه مذهلًا فور صدوره، نظرًا لأَهميته في كشف مُـخَـبَّآت نادرة عن حياة جبران لم يَصدر أَيٌّ منها في أَيٍّ من مؤَلفاته، وهي عن سيرة جبران التي لم يعُد ممكنًا من دونها فهْمُ جبران سيرةً ونتاجًا.
سنة 1973 حصلَت دار “كوارتت” للنشْر (لندن) على الإِذن من “كنوف” بطبع الكتاب في إِنكلترا، ومن يومها لا يزال يَصدر طبعةً بعد طبعة، وترجمةً بعد ترجمة في الكثير من لغات العالم.
الطبعات العربية
العربية غنِمَت دورها من هذا الكتاب، فصدر في بيروت سنة 1974 لدى دار “الأَهلية للنشر والتوزيع” بترجمة الأَب لوران فارس، ومراجعة يوسف الحوراني، في ثلاثة أَجزاء: الأَول لسنوات 1908- 1913، الثاني لسنوات 1913 – 1919، والثالث لسنوات 1919 – 1931. وصدر العنوان “نبي الحبيب” لا “النبي الحبيب” كما العنوان الأَصلي.
وكانت تلك الرسائل نالت قبلذاك قسْط صدور بعضها حين اطَّلع عليها في تلك المكتبة الجامعية الشاعر توفيق صايغ، فاختار منها باقاتٍ نشَرَها في عددين متتاليَين من مجلته “حوار”: العدد 22 – السنة الرابعة – العدد الرابع – أَيار/حزيران 1966 (ص 5 – 48)، والعدد 23 – السنة الرابعة – العدد الخامس – تموز/آب 1966 (ص 5 – 43)، ثم جمعَها في كتابه “أَضواء جديدة على جبران” (1966).
… وما زال يولد كل يوم
عن دالْتون حلو آينهُورْن أَن والدته لم تقتطف سوى 450 صفحة (بين 10660 صفحة) من “ثروة” مجموعة جبران/ماري هاسكل. هذا يعني أَنْ يبقى للاكتشاف بعدُ أَكثر من 10 آلاف صفحة.
إِنه جبران، الخالدُ الذي مات ذات يوم وما زال يولد كل يوم: في طبعة جديدة، في بلاد جديدة، في لغة جديدة، في “ثروة” مكتشَفة جديدة، كتلك الأَوراق التي، في جامعة نورث كارولاينا، تَنتظِر مَن يُكْمل الاطِّلاع عليها، لنشْرها في مجلد، أَو مجلدات، ليُشرق منها نورٌ جديدٌ على الذي كأَنه كان عارفًا تمامًا مصيرَه أَنْ لن يموت ولو مات، لذا اختَتَم كتابه “النبي” (1923) بهذه الرؤْيا: “قليلًا بعدُ، لحظة راحة فوق الريح، وسوف تَلِدُني امرأَة أُخرى”.
كلام الصور
غلاف الطبعة الأَصلية (1972)
غلاف الترجمة العربية (1974)
كتاب توفيق صايغ (1966)