هنري زغيب
في الجزء الأَول من هذا النص (الثلثاء الماضي)، عرضتُ مجموعة لوحاتٍ انطباعية لِمَناظر أَو معالِـم وضعها رسَّاموها (ڤـان غوخ، ﭘـول سيزان، كلود مونيه، أَندرو وايث) فخلَّدوا المكان وباتت لوحاتُهم ذاكرتَه، حتى إِذا زال المكان أَو تغيَّرت اليوم معالِمُه بما فيه ومن فيه، بقيَت اللوحة شاهدةً عليه.
في هذا الجزء أَختم هذه السلسلة بأَعمال أُخرى مستريحة في المتاحف العالمية، فيما الأَماكن لا تزال موجودة يقصدها الزوار والسيَّاح ليقارنوا بينها اليوم وبين ما كانت عليه يوم وضعها الرسامون الخالدون فخلَّدوها.
هي ذي الـمعالم كما ظهرَت في اللوحات، وكما هي اليوم في أَماكنها:
- ﭘـابلو ﭘـيكاسُّو (1881 – 1973): مع فجر القرن العشرين انتقل الرسام الإِسـﭙـاني الشاب من برشلونا إِلى ﭘـاريس (سنة 1900). استقرَّ فترةً في حي مونمارتر، ملتقى بوهيميِّـي الفن من رسامين وشعراء. وكان بعضُهم يلتقي ليلًا في حانة “الأَرنب الرشيق” (Le lapin agile) حيث تعرَّف بنخبة ذاك العصر من تيارات فنية طبعت مطلع القرن. أَمضى ﭘـيكاسو ردحًا من حياته الـﭙـاريسية في الفقر والتسكُّع، ووضع لتلك الحانة أَكثر من لوحة، أشهرها هذه التي عَنْوَنها “في حانة الأَرنب” وضعها سنة 1905 ويظهر هو فيها مرتديًا الزي المرقَّط الأَلوان (كثياب البهلوان)، عن يمينه جيرمين ﭘـيشو (عشيقة صديقه كارلوس كازاغيماس الذي كان انتحر سنة 1901 لأَن جيرمين صدَّته)، وفي عمق الصورة فردريك جيرار صاحب الحانة (أَهداه ﭘـيكاسو اللوحة لكنه باعها سنة 1911 فتخاصم معه وقاطع تلك الحانة). اللوحة اليوم إِحدى أَغلى اللوحات في العالم، بلغت في مزاد سوثبيز (نيويورك) نحو 40 مليون دولار. وهي حاليًّا لدى متحف متروﭘـوليتان في نيويورك.
- ڤـنسنت ڤـان غوخ (1853-1890): “نجومٌ فوق نهر الرون” (1888) وضعها الرسام سنة 1888 إِبَّان إِقامته في مدينة آرل، وكان فيها يتردَّد على ضفة النهر البعيدة نحو 500 متر عن “البيت الأَصفر” الذي كان يسكنه ووضع له أَكثر من لوحة. وهذه اللوحة من أَواخر ما وضع ڤـان غوخ قبل دخوله مرحلة الاختلال العقلي والانههيار العصبي الذي أَدَّى إِلى بتره أُذُنه ثم انتحاره. وعن وضعه هذه اللوحة بالذات كتب إِلى شقيقه تِيُو: “هي لحظاتٌ هانئةٌ أُمضيتُها على ضفة النهر في ليلة مقمرة. كان السماء زمرُّديةً مخضوضرة، والمياه هادئةٌ مزرَورقة، والأَرض حولي بنفسجية هانئة، والمدينة يغمرها ليلٌ أَزرقُ أُرجوانية، والهواء أَصفر اللفحات، وفي النهر تتلأْلأُ أَفواجٌ مائيةٌ بين ذهبية وفضية. وفيما النجومُ تتغامز من فوق في المياه بين زهرية وخضراء، رأَيت من بعيدٍ عاشقين يقتربان مني إلى الضفة”. اللوحة اليوم في متحف أُورساي (ﭘـاريس) على ضفة نهر السين، وهو يضم مجموعة لوحات فرنسية بين 1848 و1914.
- يوهانس ڤـان دِر مير (1632 – 1675): “الشارع الضيِّق” (1658). يرجح مؤَرخون تشكيليون أَن الرسام الهولندي وضعها للشارع الضيق في مدينته الأُمّ دِلْفْتْ. ويستندون في ترجيحهم إِلى أَن أُمه وشقيقته كانتا تسكنان في الجهة المقابلة ذاك الحيّ الظاهر في اللوحة. وهي اليوم لدى المتحف الوطني في أَمستردام.
- ڤـنسنت ڤـان غوخ: “جسر لَنْغِلْوَى” (1888) وهي أَيضًا من أَعمال ڤـان غوخ في مدينة آرل الفرنسية، وكان مأْخوذًا فيها بمرأَى هذا الجسر المتحرِّك فوضع له أَربع لوحات في أَربعة أَيام. وكان يحبُّ منظر النساء اللواتي يأْتين إِلى ضفة النهر كي يغسلْن الثياب، فوضع عنهم اثنتين من تلك اللوحات الأَربع. هذا الجسر لا يزال قائمًا، واللوحات هي اليوم لدى متحف كولونيا (أَلمانيا).
- كلُود مونيه (1840-1926): “زنبق الماء” (النيلوفر). وهي واحدة من 250 لوحة نيلوفر وضعها مونيه في آخر 12 سنة من حياته (1914-1926) حين انتقل وأُسرته من ﭘـاريس إِلى جيـڤـيرني (منطقة النورماندي). وهو كان يطل من شرفة بيته على السهول أَمامه، ويرسم ما فيها ما يرى من حدائق وبُرَكٍ صغيرة وجسور، لوحات رسخت فترتئذ حضوره كفنان انطباعي. اللوحات حاليًّا في متحف أُورساي (ﭘـاريس).
- ڤـنسنت ڤـان غوخ: “طاحونة لاغاليت” (1886). عامئذٍ كان الرسام انتقل من أَنتيرب (بلجيكا) ليُقيم في مونمارتر مع شقيقه تيو الذي كان يدير إِحدى أَبرز الغالريات فترتئذٍ. كانت الطاحونة قبالة بيته عند تلَّة تشرف على ﭘـاريس، فوضع لها عددًا من اللوحات في أَوقات مختلفة من النهار والمساء. مجموعة لوحات مونمارتر موجودة حاليًّا لدى متحف كارنغي للفنون الأَميركية في مدينة ﭘـيتسبورغ (ولاية ﭘـنسيلـڤـانيا).
- غْرِنْت وُود (1891 – 1942): “البيت القوطي الأَميركي” (1930)، وهي من أَشهر أَعماله على الإِطلاق. وضعها في مدينة إِلدُون (ولاية آيُوَى) من سلسلة لوحات كثيرة وضعها لِمشاهد ومناظر ووجوه ومعالِـم من الغرب الأَميركي الأَوسط. تمثِّل هذه اللوحة مزارعًا وابنته أَمام بيتهما الأَبيض وهو من الطراز القوطي الأَميركي المعروف في تلك المنطقة (نافذة وحيدة في الغرفة العليا الوحيدة الهرمية الشكل). والرسام استعان لوضع لوحته بشقيقته نان وُود غراهام، وصديقه طبيب الأَسنان الدكتور بايرون ماك كيبي). اللوحة اليوم لدى متحف الفنون في شيكاغو.
- ڤـنسنت ڤـان غوخ: “غربان فوق حقل القمح” (تموز 1890). عن مؤَرخي ڤـان غوخ أَنها آخر لوحة وضعها، وهي على أَيِّ حال مؤَرَّخة في آخر أَيامه (وفاته في 29 تموز/يوليو1890)، بل يذهب بعضهم إِلى أَنه انتحر فور إِنهائه رسْمها. وجَـوُّها قد يشير إِلى تلك الحالة الحزينة: مجموعة غربان (دليل شؤْم) تحلِّق وسط عاصفةٍ هائجة فوق حقل القمح (دليل الحياة والخصوبة)، السماء قاتمة عابسة تُنذر بمصير أَسود، وثلاث طرق خضراء متباعدة بلا نهاية. السهل لا يزال إلى اليوم خلف مقبرة الرسام في مدينة أُوڤـير. واللوحة اليوم لدى متحف ڤـان غوخ في أَمستردام.
كلام الصوَر:
- ﭘـيكاسو في حانة “الأَرنب الرشيق”
- نجوم ڤـان غوخ تتلأْلأُ في “الرون”
- ڤـان دِر مير في “الشارع الضيِّق”
- “جسر لانغْلْوَى” في لوحة ڤـان غوخ
- “نيلوفر” كلود مونيه
- الطاحونة بين اليوم وريشة ڤـان غوخ
- البيت القوطي باقٍ في لوحة وُود
- غربان القمح ونهاية ڤـان غوخ