هنري زغيب
بعد مقالي عن النحت في الحجَر الكلسي (“النهار العربي”، الجمعة الماضي 26 شباط/فبراير) أُقارِب اليوم إِقليمًا آخر من الفن: الرسم بــ”الغْوَاشْ”.
وما “الغْوَاشْ”؟
هو وجهٌ من الرسم المائي لكنه ذو مكوِّنات مختلفة يتوسَّلُها الرسامون إِجمالًا لأَنه سريع الجفاف (عكس الرسم بالزيت) ما يُتيح للرسام وضْع أَكثر من رسم في اليوم الواحد.
لُغَويًّا: “الغْوَاشْ” كلمة من الإِيطالية “غْواتْسُو” المشتقَّة أَصلًا من اللاتينية “أَكْواتْيُو: مكان فيه ماء”. ولم تتَّخذ الكلمة مدلولها في الرسم، ولو ضئيلًا، إِلَّا في النصف الأَول من القرن السادس عشر. وما سوى في منتصف القرن الثامن عشر حتى شاعت بالفرنسية والإنكليزية معًا عبارة “الرسم بالغْوَاشْ” (منذ 1757). وهو غير بعيد عن الرسم بسائر الأَلوان المائية إِنما بتقْنية مختلفة ومكوِّنات أُخرى، منها البودرة الطبشورية، والرغوة العسَلية، والمادة الصمغية اللاصقة، ما يجعلُ لها سماكةً ببعض كثافةٍ تُباعد عن الشفافية الرهيفة في الأَلوان المائية العادية.
من أَمينوفيس إِلى ماتيس
تاريخيًا: ترقى هذه الطريقة في الرسم إِلى العصور السحيقة. ففي رسوم مصرية قديمة من زمن أَمينوفيس (الفرعون التاسع: 1386-1349 من السلالة الثامنة عشرة) خصوصًا على ورق الـبَـردِيّ، بَلَغَتْنا آثارٌ مُصَنَّعَةٌ بالسكاكر النباتية وصمْغ الأَكاسيا، وواضحةٌ أَلوانها بين الأَبيض والأَصفر والأَخضر والأَزرق والأَحمر والبنيّ والأَسود.
من اليونان القديمة لم يبلُغنا أَثر لها، بينما بلغَتْنا من الرومان ما ذكَره مؤَرخهم پْـلين الأَول (في كتابه “التاريخ الطبيعي”) في نبذة عن “رُسوم تم تحضير أَلوانها بمواد من صمْغ الشجر”. وظهرَت آثار لاحقًا لها نادرةٌ في الفن البيزنطي.
في القرون الوسطى شاع استعمالُها في الزخرفات والمنمنمات. ومع مطلع عصر النهضة زاد انتشار المنمنمات الملونة لزخرفة المخطوطات في آثار ظهرت من الشرق، خصوصًا في بلاد ما بين النهرين وشبه الجزيرة العربية.
في الغرب انتشر هذا الفن، مستقلًّا عن المخطوطات، برسوم على الخشب والعاج والورق المصقول. وأَبرز مَن اعتمدَه في فرنسا: فرنسوا كْلُوِيه (1510- 1572)، وفي بريطانيا نيكولاس هيليار (1547-1619) وذاع كثيرًا مع انتشار روائع ليونار دوڤـنتشي (1452-1519) فتركَّز الرسم بالغْواش أُسلوبًا لَفَت إِليه بعده رسامين أُوروپـيين كثيرين.
الاستقلال الحر
في القرن الثامن عشر ظهر “الغْوَاش” فنًّا مستقلًّا كليًّا في أَعمال أَكبر حجمًا من مجرَّد منمنمات وزخرفات، واعتمده فنانون كثيرون مُفيدين من اختلافه عن المائيات بأَنه أَكثر سماكةً وتماسُكًا، وأَكثر: يعطي انطباع الرسم بالزيت. بين أَبرز رساميه: پـيار أَنطوان بودوان (1723-1769)، واعتمد لويس بْلارِنْبِرغ (1716-1794) مزجه مع موادَّ أُخرى غير مائية، فنقل هذا الفن إِلى بُعد تشكيلي آخَر.
في القرن التاسع عشر ازدهر هذا الفن الكامل الاستقلال مع أَعمال عدد من الفنانين، في لوحات واقعية مع هونوريه دومييه (1808-1879) وغوستاڤ مورو (1826-1898) ولوحات رمزية مع أُوديلون رودون (1840-1916).
في القرن العشرين ضَؤُل ظهور أَعمال “الغْوَاش”، عدا بعض الدراسات والأَعمال القليلة مع الروسيّ ڤـاسيلي كانْدِنسكي (1866-1944) والفرنسي جورج بْـراك (1882-1963) والإِسـپـاني پـابلو پـيكاسو (1881-1973).
وبلغ هذا الفن ذروته مع الفرنسي هنري ماتيس (1869-1954) حين ركَّز تشكيلَه على “الغواش” واسطةَ تعبيرٍ غنيةً لا لمجرد الدراسات والتجارب والمخططات، فاستعمله للـ”كولَّاج” باجتزاءِ قطَعٍ منه على لوحاته الزيتية. وبذلك دخل “الغواش” في مسار الفن الحديث.
كلارا روبن: حميمية المنزل
هذه الحداثة تخصصَت بها الإِيطالية الشابة كْلارا روبِن (ميلانو 1988) لترسم يوميات منزلية (لوحاتها مع هذا المقال) غير مأْلوفة الاهتمام التشكيلي: زوايا من المطبخ، أَدوات الحمَّام، خزانة الملابس …، مدفوعةً بفرح عودتها إِلى شمس مدينتها الأُم بعد سنوات دراستها (معهد كامْبْرْويل للفنون الجميلة – لندن) وإِقامتها طويلًا في ضباب لندن حين كانت تطغى على أَعمالها الأَلوانُ الرمادية والقاتمة.
وساعدتها أَلوانُ “الغْوَاش” السريعة الجفاف، خصوصًا على الورق، في التقاط لحظات هاربة من مَشاهد أَمامها، كأَنها تلتقطها بالكاميرا الآنيَّة السريعة، خصوصًا في زوايا من المشهد قلَّما تتناوله ريشات الرسامين، إِلَّا بعض اللُمح العابرة في أَعمال بعض الكبار: هنري ماتيس أَو هنري روسُّو (1844-1910) أَو الإِيطالي پـياترو فورناسيتي (1913-1988) أَو في فوتوغرافيا خزفيات الأَميركية جيسيكا هانْس. وقد تبدو رسومها ساذجة صامتة في مضمونها، لكنها هي تجعلها نابضة ببهجة أَلوانها المائية الــ”غْوَاشيَّة”. وتلك اللحظات ما كان يمكن ريشة روبن أَن تسجِّلها إِلَّا بــ”الغْوَاش” السريع الجفاف فترسم، خصوصًا على الورق، عددًا من الزوايا والمشاهد، وبالـ”الغْوَاش” ذاته تضع رسومًا لبعض الكتب أَو لبعض الإِعلانات التجارية.
الفن فضاء
لكل هذا الأَعلاه قاربتُ اليوم أُسلوبيات “الغْوَاش”.
إِنه الفن، بوسائله ووسائطه ومكوِّناته وأَلوانه، بتعابيره المتوسلةِ الإِزميلَ أَو الريشة، الصخرةَ أَو القماشةَ البيضاء أَو أَيَّ مساحة مُتاحة، ليَكون فضاءً مفتوحًا على الإِبداع مَدًى بلا حدودٍ ولا قُيود، وسماءً رحيبةً فيها دائمًا مكانٌ جديدٌ لنجمة جديدة.
كلام الصور
- خزانة الملابس على مدخل الحمَّام
- المجلى و”توابعه”
- زاوية من الحمَّام
- زاوية من المطبخ
- المغسلة بين المطبخ والحمَّام