قبل 50 سنة (1973) ترجمتُ لـ”منشورات عويدات” كتاب “يوم تنهض الصين يهتزُّ العالَـم” (350 صفحة حجمًا كبيرًا) لوزير العدل يومها آلان پــيرفيت (1925-1999).. ولفتَتْني فيه أَمثلة ورموز بليغة دوَّنتُها منفردةً على دفترٍ خارجَ نصِّيَ المترجَم.
من تلك الأَمثلة: رمزُ الضفدع النقَّاق الذي يـنِـقُّ وهو في قعرِ البئْرِ والبئْرُ فارغةٌ، فيروح نقيقُه يتردَّد صدًى مكبَّرًا مضَخَّمًا حوله في البئْر حتى ليظنّ بأَن صوته قويٌّ يبلغُ جميع الناس حوله وكلَّ الفضاء فوقه (كما يراه في فُتحة البئر ظانًّا أَن هذه فقط هي وساعة الفضاء).
ولكنْ… ما إِن تبدأُ المياه تتدفَّق إِلى البئْر حتى يأْخذَ الضفدع يعلو مع امتلاء البئْر تدريجيًّا.. ومع ازدياد الامتلاء يروح صدى النقيق المضخَّم تدريجيًّا يخفُّ صدًى وانتشارًا حول الضفدع، وكلَّما امتلأَت البئْر أَكثر يعلو الضفدع صوب فُتحة البئْر وتتَّسع تدريجيًّا مساحةُ الفضاء بقدْرما يعلو الضفدع صوب الفُتحة.
أَخيرًا… تمتلئُ البئْر كليًّا ويصبح الضفدع فوق، عند فُتحة البئر، فإِذا بنقيقه يصير من دُون صدى، وإِذا به يكتشف أَنَّ وساعة الفضاء بلا مدى وليست محصورة فقط بفُتحة البئْر كما كان يراها وهو تحت في قعر البئْر الفارغة.
الرموز المحورية في كلِّ هذا الأَعلاه: “الفراغ”، “الصدى المضَخَّم”، “الامتلاء” الذي “يُلْغي” تَضَخُّم الصدى، “العلُوُّ” الذي يُشير إِلى أَنَّ الامتلاء والعلُوَّ “يَفضحان” الفراغ والصدى فإِذا بالكائن (ضفدعًا كان أَو إنسانًا) يعود إِلى “حجمه الطبيعي الأَول”.
أَنتقِل من الضفدع رمزًا إِلى الإِنسان حصرًا، بما أُعاينه حولي (ويُعاينه حتمًا سوايَ عمومًا) من تصرُّفاتٍ فارغة جوفاء يأْتيها مَن إِذا تكلَّم (وكلامُه إِجمالًا فارغٌ أَجْوَف) ظنَّ كلامَه مسموعًا يتردَّد في الناس (كالضفدع ينِقُّ في قعر البئْر الفارغة) حتى إذا علَت الماء تحته اكتشف الناس فراغَ نقيقه الأَجْوَف، فانفرطوا من حوله ولَعَنُوه غاضبين على ما كان يغشُّهُم به قبلذاك، وفهموا أَنه كجسمٍ من فَلِّين: كبير، ضخم، لكنه أَجْوَفُ فارغٌ و… خفيف يبقى على وجه المياه ولا يمكن أَن يمضي عميقًا.
لعلَّ المثَل الصيني عن الضفدع أَبلغُ مضمونًا من قصيدة لافونتين عن الضفدع الذي أَراد أَن ينتفخ كي يصير بحجم الثور فانفجر ومات… ذلك أَنَّ في مَثَل الضفدع نهايةً صادمةً إِياه، فاضحةً تصرُّفاتِه الغبيَّة، موضحةً أَنَّ الممتلئَ فكرًا وجمالاً وثقافةً وسلوكًا مكتنزٌ في ذاته لا ينتظر أَن “يعلو” حتى يكتشف أَنَّ الفضاء أَوسع من فُتحة البئْر، ولا ينتظر أَن “يمتلئَ” عُلُوًّا حتى يكتشف خواء المزيفين من الناس.
هنا أَهمية هذا الرمز الذي أَنقلُه فورًا لأَعني به سياسيين لبنانيين كثيرين سلوكُهُم بين الناس كذاك الضفدع النقَّاق في البئْر الفارغة: يتكلَّمون، يثرثرون، يُصرِّحون، يُشاركون في برامج الـ”توك شو”، يوهِمون الناس، يَكْذِبون، يراوغون، يَتَثَعلَبُون، يتذَاءَبُون، واهمين أَنَّ هذا الصدى المتردِّد حولهم هو إِعجابُ الناس مُصَدِّقيهم، فيما هو ليس سوى صدًى مضخَّمٍ لنقيق ضفدع في قعر بئْر فارغة.. وإِني أَعرف، كثيرًا أَعرف، أَنَّ في شعبنا كثيرين فاضحُون أُولئك الضفدعيِّين الخُواة الفارغين، وأَنَّ في شعبنا مَن لم يعُد يصدِّقهم، وأَنَّ في شعبنا من سيَلْعنُهم في الانتخابات المقبلة، وأَنَّ في شعبنا مَن لم يَعُد يحتمل أَكاذيبَ الضفدعيِّين وضلالاتهم بل بات يحتقر وجوههم وأَسماءهم.. وأَعرفُ أَنَّ الأَغناميين القطعانيين في شعبنا يتضاءَلُون تباعًا إِلى قلَّةٍ ضئيلةٍ لن تشكِّل بعدُ درعًا واقيةً مَن لا يزالون منذ سنوات يرشُّون حولهم تصويتات مُزيَّفة سيجيْءُ وقتُ أَن يكشفَها شعبُنا فيَعي أَن تلك الأَصوات لم تكن أَصليَّةً بل هي أَصداءُ مزيَّفة وتردُّداتٌ مضَخَّمة لضفدعيِّين كذَّابين ينقُّون في قعر بئر فارغة.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com