هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

الخيانة العُظمى بين الحب والمحبة
“نقطة على الحرف” – الحلقة 1674
“صوت كلّ لبنان” – الأَحد 26 أَيار 2024

ما زالَ موضِعَ جدَلٍ قائمًا موضوعُ استعمالي كلمةَ “الحب” بدَل “المحبة” في ترجمتي الفصلَ الأَولَ من كتاب “النبي” لـجبران. وتحمِلُ الـمُجادِلين موجتان:

– الأُولى أَنَّ أَكثرَ الطبعات انتشارًا بين ترجمات “النبي” هي أَقدَمُها: التي وضعَها صديقُ جبران الأَرشممندريت أَنطونيوس بشير سنة 1926، وبقيَت وحدَها المتداوَلة طيلة ثلاثين سنة حتى ظهرت بعدَها ترجمةُ ميخائيل نعيمه سنة 1956.

– الموجة الثانية السائدة بين الـمُجادلين أَن عاصي ومنصور الرحباني، حين انتقيا من “النبي” مقاطعَ للتلحين، اعتمدا ترجمة الأَرشمندريت فصدرَت الأُغنية بصوت الخالدة فيروز حاملةً تعبير “المحبة”، فشاعت الأُغنية ساطعةً في الذاكرة الجَماعية بتعبير “المحبة” ترجمةً كلمةَ LOVE في نص جبران الأَصلي بالإِنكليزية. مع أَن ترجماتٍ عدةً بالعربية لم تعتمد “المحبة” بل اعتمدَت ترجمةَ “الحب” لمقصد جبران، في طليعتها ترجماتُ ميخائيل نعيمه ويوسف الخال والأَب يوحنا قمير، وكذلك ثَرْوَتْ عُكاشة في مصر.

الذين أَخذوا عليَّ ترجمتي “الحب” بدل “المحبة”، يتحجَّجون بأَنَّ جبران اطَّلع على ترجمة الأَرشمندريت ووافق عليها. وهذا افتراضٌ غير موثَّق لأَنَّ في ترجمة الأَرشمندريت انحرافاتٍ عن الأَصل لا يمكن أَن يكونَ جبران وافقَ عليها لو انه دقَّق في الترجمة.

على أَيِّ حال، لستُ هنا في معرض الدفاع عن ترجمتي، وهي شقَّت طريقها الواسع إِلى القرَّاء، بل لأَشرح سببَ اعتمادي “الحب” لا “المحبة” في ترجمتي. فأَنا أَرى أَنَّ “المحبة” لا تكون إِلَّا لجميع الناس، والخيانةَ أَن يبقى أَحدٌ منهم خارجها، وأَنَّ “الحب” لا يكون إِلَّا بين رجل وامرأَة، فالخيانة في حضور شخص ثالث بينهما.

انطلاقًا من هذه القناعة: أَرى أَنَّ المحبة طوباوية إِنسانية حَنون، لا طرقاتِ وَعْرٍ فيها، ولا سيفَ يجرح بين جناحَيها، ولا عصفَ فيها يغيِّرُ كلِّيًّا في حياة المتحابّين. لذا رأَيتُ أَنَّ جبران لا يقصِد المحبة الحنون بل بشَّر الناس بالحب العاصف الذي “يومَ يَندَهُكُمُ انقادوا لَه ولو انَّ دروبَه وعْـرةٌ شائكة. ويوم يَغمُرُكُم بِجناحَيه استسلِموا إِليه ولو انَّ السيف بين ريشِهما قد يجرَحُكُم. ويومَ يُخاطبُكُم آمِنُوا به ولو شتَّتَ أَحلامَكُم صوتُهُ كما ريحُ الشَمال تعبث بالحديقة”. وكلُّ هذا لا تفعله المحبة بل هو الحب بكل عَصْفِه. وهنا الفارقُ الكبير بين ترجمة المعنى الحرفي المسطَّح، والدخول إِلى معنى المعنى الذي يقصِده جبران.

تُراني أَنتقص من قيَم المحبة لأُعْلي قيَم الحب؟ لا. أَبدًا. المحبةُ كنزٌ فريدٌ لا يعطى جميعَ الناس، خصوصًا حين تصبحُ المحبة حاجةَ عطاء بقدْرما هي فرحةُ التلقّي، وهي قد تخطُرُ مرارًا في أَيِّ وقتٍ من العمر فتُغْنيه. بينما الحبُّ الحقيقيُّ العاصف، لا يأْتي إِلَّا مرة واحدة في العمْر، ولو في خريف العمر، فيُحيل الخريفَ ربيعًا لا إِلى ذبول. ولا يصحُّ الحب حين أَحدُ الطرَفَين باردٌ حياديٌّ كزهرة ذاويةٍ مخطوفةِ العطر في روضة مزهرة. وحين يهلُّ الحب، فَلْيَلْتَقِطْهُ العاشقان ولو غيَّر كلَّ حياتهما الشخصية والاجتماعية. فإِنْ لم يلتقطا تلك اللحظةَ ليعيشاها، يَعْبُرُ الحب لا إِلى رجوع، ويبقى الطرَفان يَمْضَغان الضجر جحيمًا في صحراء العمر.

لذا قلتُ إِنَّ الخيانةَ في المحبة أَنْ تَغمُرَ المحبةُ الجميعَ وتَحرمَ منها أَيَّ شخص آخَر، وإِنَّ الخيانةَ في الحب أَن يَغْمُرَ الحبُّ العاشقَين ويدخلَ بينهما أَيُّ شخص آخَر.

طوبى للمحبِّين تتَّسع قلوبُهم لكلِّ فضاء المحبة، وطوبى للعاشقين لا تتسع سماؤُهم إِلَّا لهما وحدهما دون أَيِّ سوى.

                                                                                                                      هـنـري زغـيـب

email@henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib