هنري زغيب
يُحرجُني أَن أَكتب عن هذا الكتاب، فنادرًا ما أَتناول في مقالاتي كتابًا من تأْليفي أَو ترجمتي.
لكنني، بانقضاء هذه السنة بعد أَيام وفيها الذكرى 250 على غياب بيتهوڤـن (1770-1823)، لم أَشأْ أَن أَدعها تنقضي دون التوقُّف عند هذا النص عن بيتهوڤـن، كان الصديق أَلكسندر نجار صاغه بفرنسيَّته الأَنيقة كتيِّبًا[1] تمَّت قراءَته مسرحيًّا في “مهرجان البستان” الأَخير (الأَربعاء 6 شباط/فبراير2020).
فاجأَني، وأَنا أُترجِـمُه، ما اكتشفتُ في “اعترافات” بيتهوڤـن من اضطرابات في شخصيته قطفَها أَلكسندر نجَّار ببراعة من مصادر كثيرة حول سيرته الشخصية ومسيرته الموسيقية، ما يجمُل أَن أُشرِكَ به معي قرَّاء “النهار العربي” فيتعرَّفوا إِلى الوجه الآخَر من هذا العبقري الخالد.
اعترافه بسوء مزاجه
لم يكُن يخجل بما كان لديه من مثالب. بل يعترف بوضوح: “مع بُلُوغي غروبَ حياتي، أَراني في حاجةٍ إِلى الـمُصارحة. قالوني متكبِّرًا. ولأَنَّ اسمي لودﭬـيك ﭬـان بيتهوﭬـن رأَوا إِليَّ إِنسانًا متفَوِّقًا مغفورة له بِاسْم الشهرة جميعُ مُغالَيَاتِه. سوى أَنني لا أَطلُب الـمغفِرة. فحتى لو أَخفى الـمجدُ انْـحرافاتي ولـم يُظهِر مني سوى مؤَلَّفاتي، أُصارحكم كي أُنَقِّي ضميري فأُخفِّفَ عبْئًا أَرهَقَني طويلًا ويُعيقُ رؤْيتي صافيًا غروبَ حياتي”.
ويتوغل أَكثر في جَلْد ذاته: “قد يَـجدُ لي البعض أَعذارًا تبريرية وظُروفًا تـخفيفية، بأَن يرى كلَّ تصرُّفٍ مُتاحًا للفنان شرط أَن يُبدِعَ الجمال. أَرفضُ هذا السَماح الذي يغفِر مغالياتِ الـمُبْدعين، وأَقولُها عاليًا: حياتـيَ الشخصيةُ كانت هباءً متكرِّرًا. سبَّبتُ الضرر والأَذى لأَكثرَ من ضحيةٍ وكبشِ مـحْرقة. أَسأْتُ إِلى مُقرَّبين مني ولو بدون قصْدٍ وبدون علْمي. ارتكبتُ أَخطاءَ قاتلةً أَتوبُ عنها اليوم لا جُبنًا لأَني أَشعر باقتراب نهايتي، بل لأَن قلبي، ولو قَسَا أَحيانًا، ليس من صَوَّان”.
الصمَم: أَزمتُه الأَقسى…
يعزو بعض أَزمته النفسية إِلى الصمَم التام الذي أَصابه في أَواخر حياته فحرمَه من سماع موسيقاه التي أَمضى ليالي مضنية في تأْليفها: ” أَعيشُ الآن في سجنٍ هائِلٍ من الصمْت الذي يُبعِدُ صاحبَه عن مـحيطِه فينقلبُ كابوسًا يَـحرمه من سَـماعِ أَنغامٍ هي أَصلًا مادَّةُ فنُّه، فيصبحُ غريبًا نائيًا عن أَصواتٍ يضجُّ بها كلُّ ما حَوله. يُـحزِنُني عميقًا أَنني لا أَسمع ضحكات الأَطفال وتراتيل الكنائس. لكنَّ هذا الـحُزن أَهْوَنُ من عجزي عن سَـماع نوطاتٍ أَصدَرَتْـها أَناملي على ملامس الـﭙـيَانو وتعزفُها أُوركسترا لا أُنصِتُ إِليها ولا أَسمعُ تصفيقَ الـجمهورِ إِعجابًا بي في نهاية الكونشرتو. عجزي عن هذا السَماع يجعلُني مُبعَدًا خارجَ العالَـم منفيًّا داخلَ ذاتي، كما يشعر رسامٌ أَعمى، أَو كاتبٌ مبتورُ الأَصابع”.
… وأَبوه بعض مأْساته
عدا الصمَم، يعزو مطالع فشله إِلى أَبيه يوهان (1740-1792): “يقول البعض إِنه ليس أَبي الحقيقي. لـم أَنْفِ هذه الشائعة مع أَنها مُـحْرِجةٌ سُـمْعةَ أُمِّي. لكنَّ أَبي حفر فيَّ جراحًا نفسية عميقة. كان عازفًا فاشلًا وسِكِّيرًا أَنانيًّا مُدمنًا. تزوَّج من أُمي ماريا ماغدالينا (1746-1787)، ابنة طبَّاخٍ وأَرملة خادم، وكان زواجًا غير متكافئ. كانت أُمي مُسالِـمة الطبع، امرأَةً طيِّبة ومُـحِـبَّة، تَـحمَّلتْ أَبي بصبرٍ، وأَنـجبَت له سبعة أَولادٍ لم يبلغ منهم سنَّ الرُشد سوى ثلاثة. وبين أَسوإِ مـمارساته: بَيعُهُ أَثوابَ أُمي كي يَـفي الـحاناتِ الكثيرةَ ديونَه الـمتراكمة”.
ويثور على أَبيه حين يقارن حالته طفلًا بحالة موزار (1756 – 1791): “والدُ موزار كان معلِّمًا نموذجيًّا: سهرَ على تنشئَة ابنه، درَّبه طفلًا على الـموسيقى، أَتاح له تنميةَ موهبته، هيَّأَ لإِنضاجها أَفضل الظروف، نظَّمَ له عددًا من الأُمسيات الـموسيقية في أُوروﭘَّـا لتوسيع شهرته. بينما أَبي كان يأَسرني في البيت كي يعلِّمَني العزفَ على الكمان، ودروسُه الموسيقية سبَّبت لي عذابًا جُلجُليًّا. كان ضيِّقَ النَفَس سريعَ التوتُّر: يَشتُمُني ويَصفَعُني لأَقلّ غلطة في نوطة موسيقية أَو إِذا مرةً حاولتُ الارتـجال. ولكي يوهِم الناس أَنني ولدٌ متفرِّد، زوَّرَ تاريخَ ميلادي مُسَبِّقًا إِياه سنَـتَين كي يَعْرضني للجمهور، وأَرغمَني على العزف العلني وأَنا في الثامنة. لم يأْبه أَحدٌ لي وأَصابني هَلَعُ خَوفَين: مِن أَبي ومِن الـجمهور. عند وفاة أُمي بالسلّ أُصيب بالانهيار وتفاقَمَت ديونُه. كان يُشيع أَنه ضحية ويُـحمِّلني الذنْب ويتلذَّذ بتعذيبي نفسيًّا. ظلَّ عشرين سنةً عبئًا ثقيلًا عليَّ حتى مات فجأَةً بنوبة قلبية”.
الحب؟ فشلُه المتواصل
يعترف بفشله في الحب مع النساء: “هل أَحبَبْنَني فعلًا؟ أَم ظَـنَنَّ ذلك إِذ أَحبَبْنَ موسيقاي؟ حياتي العاطفية كلُّها هدَمَتْها الـخلافات. كانت النساءُ معجَبَاتٍ بي مؤَلِّفًا دون تعلُّقٍ بي رجُلًا كنَّ يَرَيْنَ إِليه شنيعًا، متعجرفًا، متسلِّطًا، سيِّئَ الـمعاشرة. كنتُ أُحاول تغطيةَ عيوبـي بـجمال موسيقاي، وأَهديتُ مقطوعاتٍ كثيرةً مَن كنتُ أُضمِرُ اجتذابـهنّ. لكني لم أَعرف في حياتي سوى علاقاتٍ فاشلة. وكما استقلْتُ من صحتي كذلك استقَلْتُ من الحب، ورحتُ أَتردَّد على الحانات وأُعاشر بناتِ الهوى لأَنهن لن يُعلِّلْنني بآمالٍ كاذبة فلن أَقع في حبِّهنّ”.
هذه “التعاسات” المتتالية جعلَتْه يكره الناس جميعًا. في رسالة إِلى شقيقه سنة 1802، شرح أَنَّ صمَمه سبَّبُ له كُره الناس. ومما كتَب: “يا مَن تَرَوْن إِلـيَّ حاقدًا، سيِّئَ المزاج، عنيدًا أَكره الناس كلَّهم، كم أَنتم مُـجحفون! تجهلون ما بي خفيًّا وراءَ ما تَرَوْن. لا تدركون أَنَّ مرَضًا خبيثًا أَصاب سَمْعي منذ ست سنواتٍ، راح يزداد سنةً بعد سنةٍ حتى يَـــئِستُ من تَـحسُّن سَـمْعي فقرَّرتُ الانعزالَ باكرًا والعيشَ في وِحدةٍ بعيدًا عن الناس، غارقًا في الصمْت، منطويًا على ذاتي. هذا الصمَم الذي أَصابني مذ كنتُ في السابعة والعشرين هو سببُ مِزاجيَ النَفُور. وكيف لا أَكونُهُ، والموسيقى شغَفي ومصدرُ قُوْتـي، وجاء يومٌ لم أَعُدْ فيه أَسمع جيِّدًا رهافةَ الآلات والأَصوات؟ يُهنِّـــئُــني الناس ولا أَسمع. فقدْتُ ثقتي بي، ولم أَعُد أَعزف على الـﭙـيـانو أَمام الناس كي لا يهزأُوا من تَعَـثُّري”.
خسِر حياتَه وربح الرهان
ثأْرًا لواقعه ووضْعه، يختم بشمَم: “أَمضيتُ حياتي أُؤَلِّفُ الموسيقى، أُرقِّصُ النوطات، وأُخَلِّد أَنغامًا. ها أَنا تاركٌ للخلود أَعمالًا تُشبهني. لَـم أَتزوَّجْ ولا تركتُ عقِبًا، لكنَّ أَولادي هم مؤَلفاتي. ستنتقل من جيلٍ إِلى جيلٍ تنشر الجمال بَعدما أَكونُ غادرتُ هذا العالَـم. يوم مأْتم أَبي، سمعتُ حولي مَن يتهكَّمون عليه فخجلتُ. لكنني قرَّرت من يومها أَن أُحوِّلَ خجَلي رهانًا: ذات يوم سأَنتقم لأَبي برفْع اسم عائلة بيتهوڤـن إِلى الصف الأَول بين كبار الـموسيقيين. اليومَ، في غروب حياتي، أَثبَتُّ بجبينٍ مرفوع أَنني ربـحتُ الرِهان”.
كلام الصوَر
– كان يحتمي من أَبيه بِثوب أُمه
– قناعُ الموت فور وفاته
– جولييتا، فشلٌ آخر في علاقاته
– غلاف الكتاب – منشورات “سائر المشرق”
– يكتب موسيقاه ولا يمكنه سماعها
[1] “اعترافات بيتهوڤــن” – 56 صفحة حجمًا صغيرًا – منشورات “دار سائر المشرق” – بيروت. وكان أَلكسندر نجَّار أَصدره بالفرنسية في منشورات L’Orient des Livres.