هنري زغيب
مرَّ في الجزء الأَول من هذا المقال (“النهار العربي”- الجمعة 30/7/2021) عن افتتاح بيت إِميل زولا متحفًا في مِدان Médan (منطقة إِيڤلين Yvelines وفيها قصر ڤرساي)، وعن قرب صدور طبعة جديدة أَواخر هذا الشهر (بعد أُولى سنة 2014) من كتاب “مَدَام زُولا” للكاتبة الفرنسية إِڤلين بْلوكْ دانو، وعن زوجة زولا أَلكسندرين التي – رغم اكتشافها أَمرَ علاقته السرية بعشيقته جانّْ وولدين لهُ منها – تَبنَّتْهما بعد غيابه.
في هذا الجزء الثاني الأَخير نتعرَّف إِلى هذه العشيقة التي حَـمل ولداها اسم زولا وتعهَّدتْهُما زوجته.
العلاقة السرية
كلُّ ما يبقى من جانّْ روزْرو Jeanne Rozerot (14 نيسان/أَپريل 1867 – 22 أَيار/مايو 1914) أَنها كانت عشيقة إِميل زولا وأَنها أُمُّ وَلَدَيْه (دُنيز وجاك)، وبقيَتْ بعيدةً عن بيته في مِدان وعن حلقاته الأَدبية مع زملائه الكُتَّاب.
ولدَت جانّْ في روڤر Rouvres-sous-Meilly في أُسرة فقيرة لأَب عامل زراعي. نشأَت يتيمة الأُمّ وتنقَّلت باكرًا في عملها لدى بعض المنازل في پاريس. هناك تعرفَت بالسيدة أَلكسندْرين إِميل زولا سنة 1888 فطلبَت منها أَن تعمل لديها في بيت مِدان، خِياطةً وغسيلًا وسائر الأَعمال المنزلية. وهكذا كان. وأَخذت تنتقل مع الأُسرة وخادمتَين أُخرَيَين من بيت مِدان إِلى بيت پاريس وبيت العطلة الصيفية في رْوَيَّان (مدينة بحرية جنوبيّ شرقيّ فرنسا، على الأَطلسي).
كان زولا (1840-1902) يقترب من الخمسين، وفي باله تتفاعل أَسئلة داخلية. وذات يوم، في جلسة خاصة مع أَحد روَّاد سهراته في بيت مِدان، صديقه الكاتب إِدمون غونكور (1822-1896، ومن وصيّته تأْسيس “أَكاديميا غونكور” سنة 1900 ومنها انبثقَت جائزة غونكور السنوية) فباح له زولا: “أَتساءَل يا إِدمون مرارًا عن معنى الحياة. زوجتي جيِّدة لكن الحب بيننا انطفأ. وهذه الصبيَّة (يقصد جانّْ) أَرى فيها واحةً أَجمل من أَيِّ رواية أَكتبها”.
كانت جانّْ على جمال هادئ، وشعر أَسود، وعينين باسمتَين، وقامة مشيقة. راح زولا، كي يجتذبها، يتبع حمْيةً مكثَّفة تُنقِص وزنه إِلى جسم مشيق، ويزاول ركوب الدرَّاجة في دروب داخلية حول بيته في مِدان كي يحافظ على متانة جسده ويبقى على فتوَّةٍ نشيطة جاذبة.
بدأَت بينه وبين جانّْ علاقة سرية في بيت مِدان، منذ تصارحا في جلسة حميمة مساء الأَحد 9 كانون الأَول/ديسمبر 1888. كان في الثامنة والأَربعين وكانت في الحادية والعشرين. إِنه الربيع الناضج حيال ربيع يُطلُّ على النُضج.
انكشاف السر ولا فضيحة
بعد ثلاث سنوات من الحب في الظلّ، اكتشفَت زوجته هذه العلاقة في أَواخر 1891. هائلًا كان غضبُها، وازداد حين علمَت بأَنَّ لزوجها ولَدَين من عشيقته. تحوَّل غضبُها يأْسًا ارتدَّ عليها أَنها لم تُنجبْ لزوجها. تصارحا، وقررا بحكمة هادئة أَلَّا يلجآ إِلى الطلاق. تعهَّد زولا أَلَّا يهجُر البيت الزوجي واشترطَت أَلكسندْرين أَن يقطع علاقته بعشيقته. وعَدَها أَن يفعل لكنه لم يفعل. وظل على علاقته السرية بجانّْ أُمِّ وَلَديه. ولكي يتجنَّب الفضيحة والمشاكل في البيت، استأْجر لعشيقته بيتًا في پاريس (شارع لازار)، لكن المسافة بعيدة بين مِدان وپاريس، لذا استأْجر لها بيتًا في ڤِرنُوْيْ Verneuil-sur-Seine القريبة من مِدان. وواصل علاقتَه بها واهتم بتربية وَلَدَيه: الابنة دُنيز (وُلدَت في 20 أَيلول/سپتمبر 1889) والابن جاك (وُلدَ في 25 أَيلول/سپتمبر 1891). وبقي الولدان في الفترة الأُولى على اسم والدتهما لأَنهما من زواج غير شرعيّ. وفي رسالة إِلى جانّْ (16 آب/أُغسطس 1892) شَرَحَ لها أَنه لن يطلِّق زوجته تجنُّبًّا ظهورَ الفضيحة، وأَنْ يكون لولديها حصة من ميراثه الشرعي. وهكذا بقي يقسِّم حياته بين بيته الزوجي في مِدان، وبيت ڤِرنُوْيْ الذي فيه جانّْ وولدَاها، يزورهم صيفًا بشكل يومي على دراجته الهوائية ويلتقط الصوَر معهم.
سوى أَنه، في دفتر يومياته دوَّن (5 تموز/يوليو 1894): “لستُ إِنسانًا سعيدًا. هذا التقاسُم القسري في حياة مزدوجة يرهقني نفسيًّا ويُوْدي بي إِلى اليأْس. كانت نيتي أَن أُرضي كلَّ مَن حولي فأَجعلَ الجميع سعداء، لكنني اكتشفتُ أَن هذا مستحيل”.
وفاؤُه للمرأَتين
لم ينكفئْ عن وعده لكلا المرأَتين: أَرضى زوجتَه أَنْ لم يُطلِّقْها، وأَرضى أُمَّ ولدَيه فسجَّلهما رسميًّا وشرعيًّا على اسمه: جاك بمرسوم جمهوري في 13 حزيران/يونيو 1892 ثم بقرار المحكمة المدنية في 28 تموز/يوليو 1893، ولاحقًا، بناءً على وصيَّته، تسجَّلَت على اسمه ابنته دنيز بقرار المحكمة المدنية في 29 أَيار/مايو 1908 صدَّقه لاحقًا مرسوم جمهوري في 4 أَيار/مايو 1909. وهكذا انتقل الولدان من دنيز وجاك روزْور إِلى دنيز وجاك زولا.
على أَن الوفاء عاد إليه بعد غيابه بجَمْع زوجته وعشيقته: عصر الثلثاء 30 أَيلول/سپتمبر 1902 كانت زوجته تسير في جنازته، وبين الجموع كانت تسير جانّْ وولداها، وصباح الخميس 4 حزيران/يونيو 1908 كانت أَلكسندْرا وجانّْ واقفتَين معًا في بهو الپانتيون تشهدان على وُصُول جثمان الكاتب الذي كانتا رئتَي حياته العاطفية. ذلك أَن أَلكسندْرين، وفاءً لزوجها الكاتب وتاريخه الأَدبي الناصع، تبنَّت ولَدَيه من عشيقته على أَنهما وَلَدَاه الشرعيان، وتعاملَت معهما على هذا الأَساس.
هكذا غاب إِميل زولا وهو مُوَفٍّ حصةَ كلِّ من كان في أُسرته، وعاش الجميع بعده على ذكراه. ابنتُه دنيز تزوَّجَت في 2 تشرين الأَول/أُكتوبر 1908 من الكاتب والصحافي الفرنسي لُبْلُون، وأَنجبت منه ثلاثة أَولاد: آلين، فرنسواز، جان كلود. وابنه جاك تخرَّج طبيبًا وتزوَّج في 5 شباط/فبرير 1917 من زميلته الطبيبة ماغريت برونيو، وأَنجبت له ولدًا وحيدًا: فرنسوا.
حضرَت أَلكسندْرين عُرسَي ولَدَي زوجها، وبقيَت على تواصل مع والدتهما التي توفيَت عن 47 عامًا في 22 أَيار/مايو 1914 ودُفِنَت في بلدتها الأُم روڤر. وتوفيَت أَلكسندْرين عن 86 عامًا في 26 نيسان/أَپريل 1925 وحيدةً في بيتها الپاريسي (شارع روما) ودُفِنَت في مقبرة مونمارتر. وظلَّ ولدا زوجها على وفاء لها حتى وفاتهما: دنيز في 12 كانون الأَول/ديسمبر 1942، وجاك في 14 كانون الثاني/يناير 1963.
زولا: امرأَتان ومتحفان
وكما حوَّلتْ وزارة الثقافة بيت زولا وزوجتِه في مِدان متحفًا (الجزء الأَول من هذا المقال) كذلك سجَّلَت سنة 2014 بيت ڤرنُوْيْ على لائحة الأَبنية التراثية تمهيدًا لتحويله متحفًا لأَن فيه سكَن الكاتب إِميل زولا مع أُمِّ وَلَدَيه.
هكذا عاش إِميل زولا بين امرأَتين، ويبقى بعد غيابه حيًّا في بيتَين/متحفَين عاشت فيهما امرأَتان جمَع الكاتب بينهما أَنه كان لكلٍّ منهما حبَّها الوحيد.
كلام الصور
– زولا مع عشيقته جانّْ وَوَلَدَيهما
- جانّْ عشيقتُه وأُمُّ وَلَدَيه
2.زولا وجانّْ: الحب السري الـمُنْجب
- دنيز وجاك وَلَدَاه من جانّْ