هنري زغيب
عمياءُ هي الحرب. أَعمى هو الصاروخ.
مَن هي الضحية؟ مَن هو الجلَّاد؟ أُوكرانيا؟ روسيا؟ مَن يَنتصر على مَن؟
هل منظمةُ الأُمم المتحدة حقًا تمتلك الكلمة الفصل؟
هل منظمةُ الأُونسكو حقًّا كلمتُها مسْموعة؟
تتعدَّد التساؤُلات وتبقى الحقيقة واحدة: صاروخ روسي أَصاب متحفًا في ضاحية كييڤ، أَحرقَه كلِّيًّا ورمَّد ما فيه من أَعمال فنية، هي حصيلة سنوات من الذاكرة الفنية الأُوكرانية.
في مدينة إِيڤانكيڤ (غربي العاصمة الأُوكرانية كييڤ) متحف التاريخ المحلي يضمُّ معرضًا دائمًا ومجموعة كبيرة من أَعمال فنانين أُوكرانيين، بينهم ماريَّا پْريماتْشِنْكُو (1909-1997) رائدة الفن الشعبي “الساذج” في بلادها. لماذا “الساذج”؟ لأَنها لم تَدرُس الرسم ولا تاريخ الفن التشكيلي أَكاديميًّا، مع أَن الفن الساذج (برغم طابعه البدائي) هو في ذاته فنٌّ دقيقٌ وصعبٌ ومرهَف.
ريشةُ الفلَّاحة “الشهيرة”
تلك الـماريَّا وُلدَت وتوفِّيَت في البلدة ذاتها (بولُوتْنيا، ضاحية من كييڤ تَبعُد 30 كلم عن تشرنوبِل) ولم تغادر تلك المنطقة ولا مرةً واحدة في حياتها. لكنَّ أَعمالها غادرَت، وتمَّ عرضُها لدى أَكثر من معرض في البلاد فعرفَها الجمهور الواسع، ونالت سنة 1960 وسام الشرف من الدرجة الأُولى، وسنة 1966 نالت سلسلة لوحاتها “الفَرَح للجميع” جائزة تاراس تْشِڤْتْشِنْكو الوطنية الأُوكرانية أَعلى جائزة فنية في البلاد. وتوسَّعت شهرتها فأَصدرت الدولة الأُوكرانية، في سبعينات القرن الماضي، طوابع بريديّةً تحمل بعضًا من لوحاتها. وأَكثر: في مئوية ولادتها، كرَّمتْها منظمة الأُونسكو بجعل “2009 سنة ماريَّا پْريماتْشِنْكُو” لأَنها امتازت بفنها الشعبي ذي الطابع الساذج، متنقِّلةً في أَعمالها بين الرسم على الورق والتطريز والرسم على الخزَف. وكانت لوحاتها دومًا تستقطب انتباه رواد المعارض في الاتحاد الروسي وپولونيا وبلغاريا وفرنسا وكندا.
كانت ماريَّا فلَّاحة. أَصابها باكرًا شللُ الأَطفال فأَثَّر على سائر حياتها. ويروي أَقرباؤُها أَنها نشأَت منعزلة منطوية إِنما ذاتَ شغف بالطبيعة الجميلة حولها، وكلِّ ما يتحرك فيها. كرَّسَت حياتها للرسم زخرفيًّا، وجعلت الأَزهار فيه تتأَنْسن وتنبض بالحياة.
أَساطير قديمة وحكايات معاصِرة
باكرًا أَبدت اهتمامًا بالفنون، فراحت تزيِّن بيتَها زَخرفةً ورُسومًا، وتزخرف بيوت مَن يطلب ذلك من أَصدقائها. سنة 1936 تأَسس في منطقتها “متحف أُوكرانيا الوطني للفنون”، فاختلفَت إِلى محترفه الاختباري لكنها لم تُكمل، وواصلَت العمل على أُسلوبها الساذج. استخدمَت في رسم الغواش والمائيات ريشةً خاصة مقصوبةً من التراث الشعبي، لترسم بها أَعمالًا تَجمع أَساطير قديمةً من تراث أُوكرانيا إِلى حكايات فولكلورية مُعاصرة. وتميَّز أُسلوبُها الخاص ببراعة التظهير والتفاصيل، ما يوحي بشعور رهيف لديها في إِحياء المشهد أَو المنظر أَو الحيوانات التي تَعْمُرُ بها لوحاتها. وفيما اعتمدَت الشكل الأُفقي للورق أَو الكرتون لرسم لوحات ذات أَحداث، اعتمدَت الشكل العمودي للتآليف الخاصة من وجوه وأَشكال صامتة. من ذلك مثلًا قُدرتُها على رسم شجرة مزدوجة الرؤْية، أَو رسْم البيت من الداخل والخارج معًا، أَو أَنسَنَة بعض الحيوانات بشكل مضخَّم لوجوهها وعيونها وحواجبها، أَو جمْع الحزن والفرح في لوحة واحدة برسْمها قبورًا تزيِّنها زركشةُ أَزهار زاهية الأَلوان والأَشكال.
من متاعبها إِلى الفرح
اشتُهرت برسومها لكتُب الأَطفال على طريقتها “الساذجة” الطريفة البسيطة التي يحبُّها الأَطفال، أَشهرُها كتاب “طائر اللقلق” وكتاب “اللقلق يستحمُّ” للكاتب الأُوكراني ميخائيلو ستيلْماخ (1912-1883). وحين انفجر مُفاعل تْشِرنوبِل سنة 1986، على 30 كلم فقط من بلدتها، خصَّصت لمآسيه عددًا من اللوحات.
وهي عرفَت في حياتها مآسيَ عدَّة: ترمّلَت باكرًا، ربَّت طفلًا وحيدًا (“فيدير”، رسَّام كذلك على نهجها “الساذج”)، عاشت فترة الاحتلال وغالَبتها، وشهدَت إِعدام أَخيها أَمامها.
مع ذلك حاولت في لوحاتها أَن ترسم الفرح عبر رسومها التلقائية العفوية الساذجة، حريصةً على إِضفاء طابع طبيعي ما أَمكنها ذلك بخيالها البدائي وما تختزنه ذاكرتُها من قصائد أُوكرانية شعبية. وهي كانت ترسم على ورق أَو كرتون “واتْمان” المعروف، وتُفضِّل الغْواش على المائيات لأَنه يعطي الأَلوان سماكةً وحضورًا، خصوصًا في أَطراف خطوط الرسم. ومع تزايد الاهتمام بأَعمالها، أَخذت ترسم لوحاتٍ كبيرةَ الحجم.
بيكاسو: “أَنحني أَمامها”
اختطَّت بأَعمالها نمطًا بات طابعًا خاصًّا بها يوحي بأَنها آتية من دراسة متمكنة، مع أَنها لم تتلَقَّ دراسة منهجية أَكاديمية. والدليل: يوم زار پيكاسو معرضًا لها في پاريس، صرَّح: “أَنحني أَمام هذا الفن الأُعجوبي في ريشة هذه الفنانة الأُوكرانية”.
كانت هي، في حوار قديمٍ معها، قالت إِن معظم لوحاتها تراها في الحلم ثم تصحو فتضَعُ على الورق ما تكون شاهدَتْه في المنام. من هنا في أَعمالها كثرةُ الحيوانات الأُسطورية غير الواقعية، المبالَغ في مقاساتها، مأْخوذة من أَساطير شعبية قديمة وحكايات خرافية ما زالت سائدة في صفوف الشعب الأُوكراني. ومن هنا أَن مواضيع لوحاتها تتراوح بين مشاهد من الأَساطير ووجوهٍ من حديقة الحيوانات.
حياةٌ طويلة عاشتها ماريَّا پْريماتْشِنْكُو (88 سنة) مكرِّسةً إياها للعمل الدَؤُوب برسْم لوحات فيها تاريخٌ طويل من السهر والضنى.
بوفاتها قبل ربع قرن (1997) سُمِّيَ باسمِها شارع رئيس في العاصمة كييڤ، وأَصدر مصرف أُوكرانيا المركزي قطعة نقدية معدنية محفورة صورتها عليها، وآلت أَعمالُها إِلى متحف التاريخ المحلي في إِيڤانكيڤ. ومنذ ربع قرن وزوَّار المتحف يقفون أَمام لوحاتها مقدِّرين ريشتَها المبدعة.
بعد اليوم سيقف الزوّار أَمام بقايا رمادٍ هو ابن النار التي فجَّرها صاروخ سقط في الحرب على المتحف فقضى عليه وعلى اللوحات وعلى مرايا فنية ساطعة من ذاكرة أُوكرانيا.
عمياءُ هي الحرب. أَعمى هو الصاروخ.
كلام الصُوَر:
- عُصفورا الحُب (الصورة الرئيسة)
- جناحَا الحمامة: الحبّ والسلام
- عُرس في القرية على ضوء القمر
- ماريَّا أَمام بعض لوحاتها
- عروس بين كواكب أَزهار
- عاشقان يتهامسَان والعصافير تُنصِت