هنري زغيب
في الجزء الأَول من هذا المقال، سردتُ سيرة أَلْبِرتْ الريحاني ومسيرتَه ناشرًا. في هذا الجزء أَسرد دعمَه لورين شقير الريحاني، زوجتَه ورفيقتَه في رحلة النجاح والعمل على نشر ثقافة الأَطفال والأَحداث والناشئَة.
أَلْبِرتْ ولورين: زواج الحب والأَدب
“الورشة” الكبرى التي قادها أَلْبِرتْ الريحاني، نشرًا وحلقات أَدبية ونشاطًا متواصلًا، ما كانت لتكتمل لولا وقوفُ زوجته لورين (المولودة “شقَير” في الشويفات سنة 1912) داعمةً إِياه بجعل بيتهما في الفريكة محجًّا، وتشجيعه إِياها على المضيّ هي الأُخرى في نشاطها الأَدبي. فهو اختارها زوجةً عالية الثقافة: بدأَتْ باكرًا بالنشر (مقالتُها الأُولى “يا أُمَّ بلادي” صدرت في جريدة “الأَحرار” سنة 1944)، وهي خريجة “كليَّة بيروت للبنات” (حاليًّا: الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU). و”يوم اختيرت لتمثيل أَترابها في قصيدة لها بالإِنكليزيّة، صدرَت تلك القصيدة إِلى جانب كلمة رئيسة الكلية في قلب الحجر الأَساس لِمبنى “إِرْوِن هول” في احتفالٍ خاص لتدشين مبنى إِدارة الكليّة. التحقَت بعدها بالجامعة الأَميركية في بيروت فعُرِفَت بــ”شاعرة الجامعة”، ونُشِرت قصائدها طوال عقدَين على صفحات مجلة “الكليّة” منذ منتصف ثلاثينات القرن الماضي”، كما يروي ابنُها أَمين أَلْبِرتْ الريحاني في ندوة عنها أَقامَها “مركز التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأَميركية (LAU) مساءَ الإِثنين 3 تشرين الأَول/أكتوبر 2011 جمعَت، إِلى ابنها أَمين، ذكرياتٍ عنها من ابنتها مي الريحاني (واشنطن)، والكاتبة إِمِلي نصرالله، والشاعر جوزف أَبي ضاهر.
مجلَّة رائدة غير مسبوقة…
وحين، ذات يومٍ من 1955، عرضت لورين على زوجها أَلْبِرتْ فكرة إِصدار مجلة للأَولاد بِاسم “دنيا الأَحداث”، شجَّعها على المضيّ بها مجلةً رائدةً غيرَ مسبوقةٍ في لبنان. تعهَّد نشْرها في “دار الريحاني”، جَمَع لها ومعها أَعلامًا من حلقته الأَدبية لجنةَ تحريرٍ متخصصةً، وفتح لها وللَّجنة مكاتب دار النشر (باب إِدريس – شارع رئيس في قلب العاصمة بيروت) وحضرَ معها الاجتماعات التي أَثْمرَت صدور العدد الأَول من “دنيا الأَحداث” في 2 تشرين الثاني/نوڤمبر 1955، بأُسرة تحرير من: لورين شقَير الريحاني صاحبة المجلة، جان مرهج مديرًا مسؤُولًا (أُستاذ العلوم الطبيعيّة في الجامعة الأَميركيّة – بيروت)، وديع ديب (أُستاذ الأَدب العربي في الجامعة الأَميركيّة)، ماغي كمال الحاج (سكرتيرة تحرير)، إِمِلي أَبي راشد (لاحقًا الكاتبة والروائية إِملي نصرالله)، ومن رسّامي المجلة: اللبناني سمير أَبي راشد، السوري طارق العسلي، المصري عزيز سليمان.
ونظَّم أَلْبِرتْ، في مكاتب “دار الريحاني”، احتفالًا على شرف زوجته لورين بصدور العدد الأَول، وحضور أُسرة تحرير المجلة ورساميها ومناصريها، زيَّــنَه قالبُ حلوى على شكل غلاف ذاك العدد الأَوَّل بأَلوانه الزاهية وأَحرُفه المضيئة. يومها رفع أَلْبِرتْ ولورين نخب المناسبة، ووزَّعا العدد الأَول على الحضور، وكان أَلْبِرتْ مغتبطًا أَن يحقِّق حُلم زوجته بإِصدار مجلةٍ للأَولاد على غرار ما يصدر لهم في العالم من مجلات بالفرنسية والإِنكليزية.
بعد أَيامٍ، جمَع أَلْبِرتْ في مكتبه نخبة صحافيين حول لورين لإِطلاق المجلة إِعلاميًّا، فراحت تشرح لهم أَنها مخصصة للأَحداث تحديدًا، لِلَهْوِهم، لِمطالعاتهم، لِتسليتهم، يقرأُون على صفحاتها القصَّةَ الحلوة والطرائفَ اللذيذة والفكاهاتِ المضحكةَ والأَلعابَ التربوية المسلِّية، ويقرأُون فيها أَخبارهم وأَخبار رفاقهم تلامذة المدارس المختلفة، فتكون هذه المجلة أُسبوعيًّا أَزاهرَ معرفة لهم، تُهَيِّئُ لهم جوًّا مَرحًا فسيحًا يَهنأُون به. وكان هذا الكلام ورَدَ في افتتاحية العدد الأَول التي ختمَتْها لورين بعبارة: “جميلةٌ هي الحياةُ بوجودكُم، وهي بجمالكُم أَحَبُّ وأَجمل”.
… وكُتُب أُخرى للأَولاد
بفضل شهرة “دار الريحاني للنشر” وخبرة أَلْبِرتْ في تسويق المنشورات، عرفَت “دنيا الأَحداث” انتشارًا واسعًا في لبنان والعالم العربي، واستمرَّت بالصدور (نصف شهرية تصدر نهار الأَربعاء) من تشرين الثاني/نوفمبر 1955 حتى آذار/مارس 1970. وبعد عامها الثامن حملَت المجلة اسم “الفرسان” إِلى جانب “دنيا الأَحداث”. ومن أَبوابها التي اشتُهرت: “حكايات ليلى”، “هل تعلم؟”، “عالم الحيوان والنبات”، “لغة الصُوَر”، “دنيا المدرسة”، “دنيا الأَحياء”، “أَدب الأَحداث”، قصص مصوّرة، مغامرات تسلية، وباب خاص بالقرَّاء الأَحداث لتشجيع أَقلامهم الزَغبة، فكانت “دنيا الأَحداث” منبرًا أَوَّلَ استقبل النُصوص الطرية الأُولى لعدد ممن أَصبحوا لاحقًا كُتَّابًا محترفين، في طليعتهم الشاعر والرسام جوزف أَبي ضاهر، الروائي الياس العطروني، الرسام شوقي شمعون (بداياته في مجلة “الفرسان”).
ولم يكتَفِ أَلْبِرتْ بنشْر مجلة الأَولاد، فشجَّع زوجتَه لورين على تأْليف كتُب لهم راح ينشرها تباعًا: سلسلة “حاملات الشُمُوع” (ثلاث قصص للأَطفال: “عُرس على ظهر فيل”، “فأْرة تُنقذ أَسدًا”، “غيمةٌ ضاحكة”)، وسلسلة “دنيا الأَحداث” (ثماني قصص)، وكتاب “لُغَة الصوَر” (تتداخل فيه الصورة مع النص لأَهداف تعليميّة). ثم أَصدرَت كتابًا تربويًّا يحمل نظرتَها إِلى الأَحداث ورسالتَها إِليهم عبْر مجموعة رسائل بعنوان “بُــنَــيّ” موجَّهة إِلى أَولادها أَمين، مي، رمزي، سرمد، ومن خلالهم إِلى سائر الأَولاد. وكان لكُتُب لورين الريحاني رواج كبير في لبنان والعالم العربي.
صعقة القدر القاسي
وسْط تلك الموجة المباركة من زخم الإِنتاج والطموح بالمزيد، كان القدَر قاسيًا على الزوجَين السعيدَين: في 12 آذار/مارس 1970 دخلَت لورين غرفة العمليَّات الجراحية لاستــئْــصال تَوَرُّمٍ في الرأْس، وخرجَتْ منها… مصعوقةً بشللٍ نصفيٍّ أَقعَدَها وأَفقدَها قدْرة النُّطق والقراءَة طيلة 26 سنة حتى وفاتها في 19 نيسان/أَبريل 1996.
المقال المقبل الأَخير: أَلْبِرتْ وشقيقُه أَمين الريحاني
كلام الصُوَر:
- أَلْبِرتْ ولورين في فندق “البريستول” (1954)
- أَلْبِرتْ ولورين… معًا على طريق النجاح
- لورين عروس اجتماعات الفرَيكة
- “دنيا الأَحداث” بإِصدار “دار الريحاني”
- عدد من “دنيا الأَحداث” (1957)