هنري زغيب
بعد 15 سنة من المراسلة اللاهبة المتواصلة (بين حزيران/يونيو 1944 و30 كانون الأَول/ديسمبر 1959)، كان القدَر قاسيًا على الحبيبَين بانكسار هذا الحب في فاجعة موت أَلبِر وهو في ربيعه السادس والأَربعين، متوَّجًا بجائزة نوبل للأَدب قبل سنتين (1957) وهانئًا بحياته العاطفية.
في هذه الحلقة الخامسة (والأَخيرة) أُفصِّل ما جرى حتى الرسالة الأَخيرة بين أَلبِر كامو (1913-1960) وماريَّا كازاريس (1922-1996).
الحدسُ بالنهاية
“واضحٌ من تلك المراسلة، المكثَّفة شبه اليومية، صدقُ الحب القويّ الذي كان يجمَع بينهما”. هكذا كتبَت ابنتُه كاترين كامو في مقدمتها لكتاب الرسائل بين أَبيها الكاتب الكبير وحبيبته ماريَّا كازاريس (865 رسالة صدرت في 1312 صفحة – منشورات غاليمار – باريس 2017).
كلاهما عاش في زهو النجاح. هو كان اشتُهر جدًّا بعد صدور مؤَلفاته الروائية والمسرحية (“الغريب”، “الطاعون”، “كاليغولا”، “العادلون”،…) فكان يغيب عنها في جولاته الأَدبية ومحاضراته وأَسفاره، وهي كانت تغيب عنه في جولاتها المسرحية مع فرقة “الكوميدي فرنسيز” وانشغالاتها في تسجيلات إِذاعية وتمارين وتصوير أَفلام. لكنهما لم ينقطعا عن الكتابة والتراسُل وإِذكاء شعلة الحب الجميلة بينهما. ها هي، بعد نجاحها المسرحي الساطع في الأَرجنتين، وفي ختام احتفال تكريمي أُقيمَ لها (تشرين الأَول/أُكتوبر 1957)، تكتب له: “كلمات الشُكْر التي أَلقيتُها في نهاية الاحتفال، قلتُها وأَنا أُفكِّر بك”. بعدها بأَيام، إِثْر إِلقائه كلمتَه عند تسلُّمه جائزة نوبل في السويد، أَرسل لها هذه البرقية العاجلة: “لم أَفتقد تهنئةَ أَحدٍ بالجائزة مثلما افتقدتُ أَن تكوني حدِّي وأَنا أَتقبَّل التهانئ”.
سوى أَنه في رسالة لاحقة (1959) كتب لها: “بين أَسخف ما في هذه الحياة: الموتُ بحادث سيارة. أُريد أَن أَموت مفتوحَ العينين كي أُواجه موتي”.
الرسالة الأَخيرة
غريب ما كان يشعُر بحدسه وهو يكتب إِليها من بيته الريفيّ البعيد في بلدة لورماران (صباح الأَربعاء 30 كانون الأَول/ديسمبر 1959): “إِنها رسالتي الأَخيرة إِليكِ. عدلتُ عن السفر بالقطار. سأَعود بالسيارة صباح الإِثنين. وإِن لم يحصل طارئٌ في الطريق، أَصل إِلى باريس الثلثاء ونتناول العشاء معًا. إِلى اللقاء يا رائعتي. أَنا سعيدٌ لفكرةِ أَنْ سأَلقاكِ، حتى أَني أَبتسم الآن وأَنا أَكتبُها. أَبُوسُكِ، وأَضمُّك إِلى صدري من الآن حتى الثلثاء حين أَبدأُ بِضَمِّكِ من جديد”.
غير أَن الثلثاء أَتى، ولم يأْتِ أَلبِر، ولن يأْتي أَبدًا.
بعد تمضية أَيام الميلاد (1959) ورأْس السنة (1960) مع أُسرته، أَرسلَ بالقطار زوجته فْرَنسين وتوأَميه كاترين وجان إِلى بيته في باريس. واشترى هو أَيضًا بطاقة السفر بالقطار ليلتحق بهم. غير أَن صديقه الناشر ميشال غاليمار وصل إِلى تلك البلدة الريفية فزاره وتمنَّى عليه بإِصرار أَلَّا يسافر إِلى باريس بالقطار فيعود معه بسيارته الــ”فاسِل فيغا” الجديدة. وهذا ما حصل…
صباح الإِثنين (4 كانون الثاني/يناير 1960) دسَّ أَلبِر بطاقة القطار في حقيبته السوداء، جمعَ أَوراقه وبينها 144 صفحة من مخطوطة كتابه الجديد (“الإِنسان الأَول”) ودلَفَ إِلى المقعد حدّ ميشال غاليمار الذي جلسَت وراءَه في المقعد الخلفي زوجتُه وابنتُه. كان ميشال يهوى القيادة السريعة، وسيارتُه الجديدة قوية وسريعة جدًّا. بعدما خرج من الطرق الريفية الضيِّقة وانكشف إِلى الطريق العريض السريع المؤَدّي إِلى باريس، أَطلق سيارته إِلى سرعتها القصوى، حتى إِذا وصل إِلى بقعةٍ اشتدَّ فيها المطر فتلازَجَت الطريق، تزحلقَت السيارة السريعة، فَقَد ميشال السيطرةَ عليها، رتطَمَت بشجرة غليظة على جانب الطريق فتهشَّمَت قِطَعًا متفكِّكة وانحشر صدر أَلبِر كامو بين مقعده وزجاج السيارة الأَمامي ومات على الفور.
وفاءُ ماريَّا بعد أَلبِر
بعد موته عاشت ماريَّا 36 سنة. واصلَت حياتها المسرحية. انتقلَت إِلى السينما فمثَّلت بعض الأَفلام الناجحة. نالت الجنسية الفرنسية سنة 1975. وفي شيخوختها انسحبَت إِلى قصر قديم كانت اشترَتْه في مدينة آلُّو (الجنوب الغربي من فرنسا). أَصدرَت سيرتها الذاتية في كتاب “المواطِنَة المحظية” (430 صفحة – منشورات فايار- باريس 1980)، وفيها تفاصيلُ جديدة عن سيرة حبِّها مع كامو 15 سنة، منها ما كان بينهما من فترات تشنُّج لأَن أَلبِر كان يرفض أَن يطلِّقَ زوجتَه فْرَنسين، خصوصًا بعدما حاولَت الانتحار حين اكتشفَت سنة 1954 علاقتَهُما السرّيَّة. تستشهد ماريَّا بعبارات من رسائل أَلبِر حول زواجه الذي هو “العقبة الوحيدة” أَمام حبِّهما: “يا حبيبتي ماريَّا، حبُّنا الممنوع ليس ما تستحقّين أَن تعيشيه معي. وأَنا معكِ عرفتُ قوةَ حياةٍ كنتُ ظنَنْتُتي فقدتُها. أَنتِ الوحيدة التي بكَيتُ معها وأَمامها ومن أَجلها. أَنا مُتْعَبٌ من هذا الحب الممنوع المحاصَر، وأَخاف أَن أَخسرَكِ. هذا لأَقول لكِ ما أُعانيه وما يشغل أَفكاري، لذا أُمضي ساعاتٍ طويلةً من النهار والليل في التفكير العاري داخل غرفة مظلمة”.
وتقلَق هي عليه فتُجيبه: “أَحبُّكَ، أَلبِر، أُحبُّك جدًّا. أُكتُبْ، أُكتبْ، أُكتُبْ، ولا تتوقَّف عن الكتابة. أَحتاج رسائلَكَ كي أَشعر أَني أَعيش”. وغالبًا ما كانت تستشيره في أُمور ومشاريعَ ذاتِ علاقة بمهنتها فيُجيبها وينصحُها بكل احترامِه حياتَها المسرحية.
في سنواتها الأَخيرة، جمَعَت الرسائل والبرقيات والبطاقات البريدية بينهما، وعهدَت بها كلَّها إِلى الشاعر رينه شار (صديق كامو). توفيَت عن 76 سنة (1996) وجاء في وصيَّتها أَنها تهب قصرها لبلدية البلدة شرطَ أَن تُحوِّله البلدية “بيتَ الممثل” وتقامَ فيه عروض ومهرجانات مسرحية. وهذا ما حصل، وما زال القصر حتى اليوم مكانًا للعروض والمهرجانات والمؤْتمرات المسرحية، وفي قاعة منه يسمع الزوَّار تسجيلًا صوتيًّا لقراءَات مسرحية من الرسائل بينها وبين كامو.
في حديث صحافي عن كامو وعلاقتهما السرّيَّة، قالت ماريَّا: “حين المرأَةُ تحب رجلًا، تبقى على حبه طول العمر. ومثلما كانت تكسر وحدَتها بحضوره، تبقى تكسرها في غيابه كذلك”.
أَلبِر كامو وماريَّا كازاريس، حكايةُ حبٍّ ممنوعٍ خالدةٌ عاشاها 15 سنة. وحين ابنتُه كاترين، بعد وفاة والدتها فْرَنسين عن 65 سنة (24 كانون الأَول/ديسمبر 1979) أَصدرَت تلك الرسائل في كتاب، أَضافت إِلى الأَدب الفرنسي بُعدًا جديدًا لشخصية أَلبِر كامو، ما كان يمكننا أَن نعرفَه لولا وجهُه الآخر في رسائله الحميمة.
كلام الصوَر:
- ماريَّا وأَلبِر: لحظاتُ سعادة في الحب الممنوع
- خلال تمرين على مسرحية “حالة طوارئ” لكامو (1948)
- مقتل كامو بالحادث الفاجع (4/1/1960)
- بلاطة ضريح كامو
- كتاب ماريَّا – سيرة ذاتية مضطربة (1980)