هنري زغيب
في الثلاث الحلقات السابقة، عرضتُ نماذج من رسائل أَلبِر كامو إِلى حبيبته ماريَّا، وفيها كيف هذا الكاتبُ القوي، بأَدبه العالي وفكْره الفلسفي العميق، كان فتًى مراهقًا منسحقًا بضعفه وشغَفه وَوَلَعه أَمام حبيبته، فبدا لنا غيرَ ما نعهده في كتاباته. بدا لنا وجهُه الآخَر العاري الشفاف.
في هذه الحلقة أَنتقل إِليها، إِلى ماريَّا، لنستطلع كيف كانت تكتُب له، وهل هي أَمامه بهذا الانسحاق ذاته؟
هنا صفحة لا من رسالة إِليه بل من مذكِّرات كانت تكتُبها وهي بعيدة عنه لشهر كامل (منذ 31 تموز/يوليو 1948) في منتجَع وسْط بلدة جيڤرني (منطقة النورماندي) تعتني بوالدها المريض.
من مذكراتها تلك، هذه الصفحة:
الجمعة 6 آب/أُغسطس 1948 – مساءً
أَخيرًا… يا حبيبي، كان لا بُدَّ، عند استلامي رسالتَيْكَ الأَخيرتَين معًا، أَن أَحيا فرحتي الصامتة ثم الناطقة ثم الصائحة غبطةً حتى أَعي حالات اليأْس والفراغ والقلق التي كانت تسكُنني في اليومَين الماضيَين.
لذا لن أُبطئَ في الردّ برسالةٍ عند أَول دقيقة متاحة فأَكتُب لكَ بدون تردُّد. ربما يجب أَلَّا أَتباطأَ. إِذا كان هذا خطَأً فليسامحني الله لأَنني تعذَّبتُ من صمتكَ كثيرًا فلن أَجعلَكَ تتعذَّب لإِبطائي في الجواب واحتمال قسوة الانتظار. أَعرف كم مُرهِقٌ أَن نعيشَ في تَخَيُّل ما قد لا يأْتي حين نُريده أَن يأْتي. وإِنني لن أَفعل كلٍّيًّا ما تريديني أَن أَفعله إِلَّا إِذا كنتَ فعلًا في حاجة قُصوى إِليه. لو كان لي أَن أَكتب إِليك كلما هبَّت بي الرغبة لكنتَ ستسْتَلِم مني على الأَقل رسالةً كل يوم، ولن أَعِدَ بأَكثر لأَني أَعرف أَنْ لستُ هنا وحدي حُرَّةً إِلَّا عند المساء، مثلما أَنا الآن، حين أَنسحبُ إِلى غرفتي في هذا الفندق. ولو لم يكن الأَمر كذلك، ورغبتُ في أَن أَتبَع رغبتي بما أُريد وبما أُحس، لكانت تحملُني جميعُ دقائق يومي على أَن أَكتُب إِليك بدون توقُّف.
سوى أَنني أَتنبَّه إِلى ضرورة اعتدالي العقلاني. وهذا ما أُفكِّر به وما أَتخيَّل وُجُوبَ أَن يكون. أَجِبْني إِن هذا يُرضيك ولا يُزعجك. حين ودَّعتُكَ فسافرتَ أَنتَ وجئْتُ أَنا إِلى هنا، وعدْتُكَ أَن أَكتبَ مذكراتي يوميًّا في صفحةٍ، اثنتَين، عشْر صفحات، أَو ربما كلمة واحدة، وأَحفظ الكلَّ معي. وحين تجمح بكَ رغبةُ قراءَتها تكتُب لي فأَضُمُّ كلَّ ما أَكونُ كتبْتُ وأُرسلُه لكَ في ظرف واحد. هل تقبل هكذا؟
لا تقلْ لي إِنَّ هذا أَمرٌ سخيف. كلُّ شيْءٍ قد يبدو سخيفًا وفْقَمَا تتصوُّرُه. ولكن… لأَن وضعنا حاليًّا هو هكذا ولا يمكننا أَن نغيِّره، فلْنحاولْ أَن نتأَقلم معه بأَفضلَ ما نستطيع كي لا نُفسِد كلَّ شيْء بتطَلُّب المستحيل من وضعنا العبثيّ.
أَعود الآن إِلى رسالتَيْك.
السعادةُ التي تمحُنِيها بوجودكَ لِمجرَّد أَنك موجود (بعيدًا كنتَ، أَو معي)، سعادةٌ كبيرة جدًّا، إِنما أَعترف لك بأَنها عادة ضبابية، تجريدية، غامضة. والغموض لا يمكن أَن يرضي امرأَةً أَو يُريحها… على الأَقل أَنا، لا يُرضيني ولا يُريحني. فإِنني، بكل صراحة، أَحتاج جسدكَ الـمَشيق، ذراعَيكَ الطريَّتين، وجهَكَ الـمُشرق، نظرتَكَ الشفَّافة التي تَـهُزُّني، صوتَكَ، ابتسامتَكَ، أَنفَكَ، يديكَ، كلَّكَ معًا.
وهي ذي رسائلُك تحملُ إِليّ طيفًا من حضوركَ الفعلي، وتغمُرُني بعذوبةٍ لا أَعرف كيف أَصفُها لكَ، خصوصًا حيال فكرتكَ الأَخيرة أَن تُطْلعَني على أَدقِّ تفاصيل حياتك اليومية: المكان الذي تكون فيه، حالتكَ الجسدية والنفسية التي تكون فيها. لا يمكنكَ أَن تتخيَّل إِلحاحَ حاجتي، هذه الأَيام الأَخيرة، لأَعرف عنكَ قليلًا، لأَتخيَّلَكَ قليلًا، من الصبح حتى المساء، أَو في أُويقاتٍ معيَّنة من النهار.
لذلك أَقول لكَ، وقد تقول إِنني أَهذي، إِن كانت فعلًا مشاعرُك نحوي في غيابي، تُشبه – وأَظنها كذلك – مشاعري في غيابكَ، فإِنني – طوال هذا الوقت الذي يفصلنا – لن أَدعكَ غائبًا عن تفاصيل حياتي اليومية.
هذا هو القسم الأَول من رسالتي التي سأُرسلها لكَ لاحقًا، وأَظنُّه يُضيْءُ لكَ بوضوحٍ وتفصيلٍ حياتي اليومية. لستُ واثقة مما جاء في هذا القسم الأَول أَعلاه، وأَخشى إِعادةَ قراءَته من جديدٍ خوفَ أَتردَّدُ في إِرساله لكَ إِذ قد أَجدُه تافهًا، نافلًا، غيرَ واضح، ولن يكون لي أَبدًا أَن أُنكر ما أَكون كتبتُه لكَ وباتَ بين يديكَ. فغالبًا، حين أُمسي وحدي في غرفتي، يأْخذني القلق وأَرتبكُ في ما أَقرر، فأَمتنع عن قراءة ما أَكون كتبتُه لكَ، وقد تجد ما فيه ضعفًا وتردُّدًا، ولا أُريد مطلقًا أَن تَرسَخَ بك عني هذه الفكرة.
فلأَنني أُضمر، بل أَتخيَّل، أَنني سأَكون حدَّكَ حين تقرأُ هذه الأَسطر من مذكراتي أَعلاه، لن أَحذف منها سطرًا واحدًا، حتى ما قد يكون ورَدَ فيها من تفاهات بلا معنى وخلْط أَو تَشوُّش في الأَفكار، لأَني أُضمرُ أَنني سأُوضحها لكَ إِذ أَكون معكَ حين تقرأُها. إِذًا فاقْرأْ بدون توقُّف وتساؤُل، وانتظِر إِيضاحاتي الشفوية حول ما قد يكون غمُضَ عليك كتابيًا.
أُحبُّكَ، أُحبُّكَ، أُحبُّك…
سأَتوقَّف هنا الآن عن الكتابة. ساعات هذا الليل تسابقُني، ولا أَستطيع أَن أَقول لك “إِلى اللقاء” لأَن في قولي هذا صوتَ الفراق ولا أُريد أَن يكون بيننا فراقٌ من أَيِّ نوع ولأَيِّ سبب.
إِني هنا، قريبةٌ منكَ كلَّ لحظة، متأَملةٌ بكَ، منجذبةٌ إِليك، سائلةٌ ربي أَن يحفَظ حبَّنا الذي لا أَشعر إِلا به في حياتي.
ولا أَطلُب منكَ إِلَّا أَمرًا واحدًا: أَن تَراني كما أَراك، وأَلَّا تَتَغيَّر نظرتُك إِليَّ أَبدًا كما لن تتغيَّر أَبدًا نظرتي إِليك.
أُحبُّكَ وأَبوسُكَ بجميع قواي.
ماريَّا
الحلقة المقبلة (الأَخيرة): الرسالة الأَخيرة
كلام الصور:
- ماريَّا وأَلبِر في مطعم ليليّ (1950)
- ماريَّا في مشهد مسرحي (1951)
- ماريَّا في غرفة فندقٍ مزهوَّةً مع أَلبِر (1949)
- الكاتب جان كوكتو يقبِّل يد ماريَّا في كوكتيل (1948)
- ماريَّا وأَلبِر إِبان التمارين على مسرحية “العادلُون” لكامو