هنري زغيب
أَبعدَ من أَن تكون هذه الرسائل كتابات لاهبة بين عاشقين، هي مرآةٌ لافتةٌ لكاتب كبير في وهج أَلبر كامو، الذي عرفناه ذا هيبة ساطعة في رواياته (“الطاعون”، “الغريب”،…) ومسرحياته (“سوء التفاهم”، العادلون”، …) ومقالاته الثائرة إِبان المقاومة الفرنسية ضدّ الأَلمان.
هنا كيف ينقلب في هذه الصفحات الحميمة مراهقًا يتعرّى نفسيًّا وفكريًّا وعاطفيًّا أَمام صبيَّة تصغره بتسع سنوات، يبثُّها حبه المجنون في أُسلوب انسحاقيّ لم نعهده في جميع كتاباته، كما سنكتشفه في هاتين الرسالتين:
الخميس 6 تموز/يوليو 1944 – الساعة 4:00 بعد الظهر
صغيرتي ماريَّا
تسلمتُ الآن رسالتَك المؤرخة الثلثاء أَول من أَمس. جاءَتني في وقتها. فأَنا منذ 48 ساعة في حالة ركُود وجفاف. الأَصدقاء حولي هنا، ومع ذلك أُحسُّني وحيدًا. أَعيش منعزلًا في غرفتي بحجَّة كتاباتي. أَكتب قليلًا بتقطُّع وتوتُّر، ثم أَذرع الغرفة وأُدخِّن الباقي من سجائري. لا أَحتمل كلَّ هذا. إِني أَتعذَّب في هذا المنأَى مع أَن الطبيعة حولي جميلة، هانئة، هادئة. قلبي فَقَدَ راحتَه، هذا إِن كان عرفَها يومًا، هذه الراحة.
أَنا بعيدٌ عن كل شيء، عن واجبي كرجُل، عن مهنتي، وخصوصًا عن حبيبتي وهذا ما يدمِّرُني. كنتُ أَنتظر وُصُولَكِ إإِلى هنا، إِنما لن تأْتي إِلَّا الأُسبوع المقبل. آه يا حبيبتي. أَعرفُ ظروف عملِكِ الصعبة، لكنني أَعرفُ أَنكِ ستتجاوزينها. أَغلى ما في الأَيام الصعبة التي عشناها معًا: ثقتي بكِ. كان بي ظلُّ شكٍّ أَن يكون حبُّكِ غير واثق، أَو أَنك واهمةٌ بالحب. ثم… لا أَدري ما الذي جرى وكيف : كأَنَّ برقًا عاصفًا مـرَّ بيننا، فَوَمَضَت نظرةٌ ما زلت أُحس بها، أُحسُّها قويَّةً كالروح ربطَتْنا بهذا التعلُّق العاصف. لذلك بتُّ أَنتظُرك بشغفٍ وولَعٍ وثِقة. مررتُ بأَشهُر صعبة متوترة حاولتُ أَلَّا أَدَعها تُرهقُ أَعصابي فتُؤثِّرَ على كتابتي. لكنني ما عدتُ أَحتمل ما كنتُ أَحتملُه بهدوء.
الآن كلُّ هذا لم يعُد يَهُمّ، وسيَعْبُر. يُفرحني أَن تكوني معي وتبقَي معي. فكوني دائمًا جميلة كما أَنتِ. ابتسمي دومًا. أُريدُك أَن تكوني سعيدة. لم تكوني يومًا جميلةً كما كنتِ ليلةَ قلتِ لي إِنك سعيدة (تذكرين؟ وكنتِ مع صديقتك). إِني أُحبُّكِ بكل أَنتِ، ولكن خصوصًا بهذا الوجه الطافح سعادةً غامرة، وبهذه اللمعة الـمُزَلْزِلَتِني إِشراقةً ساطعة. ليس من طبيعتي أَن أَحلم بالحب أَو أَتوهَّمه. لكنني أَعرف كيف أَقطف لحظتَه حين تهبُنِيه الحياة.
لا تنزعجي من ثرثرتي هذه. إِنما يوجعني أَن أَنتظر بعدُ أُسبوعًا كاملًا كي أَراكِ. لكنَّ ليس هذا هو المهم، بل المهم هو… لا لن أَقولَه لكِ هنا بل حين أَراكِ.
إِلى اللقاء، ماريَّا، يا ماريَّا الرائعة، يا ماريًّا الممتلئة حيوية. أُحسُّني قادرًا على تطريز صفاتٍ لكِ لا تُحصى، لكنني أَختصرها جميعَها فأَقول إِنني أُفكِّر بك دون انقطاع وأُحبُّك بكل ما في أَعصابي. تعالي سريعًا. لا تتركيني وحدي مع أَفكاري هذه. أَحتاج حضورَك النابض، وجسدَكِ الذي يُذيقُني الحياة. ها أَنذا أُمُدُّ لكِ يَدَيّ. إِحضَري أَمامي بأَسرع ما يمكنكِ. أَبوسُكِ بجميع قواي.
الجمعة 7 تموز/يوليو 1944 – الساعة 11:00 ليلًا
تجمح بي هذه الليلة رغبةُ أَن أَخاطبَكِ، لأَن قلبي متعَبٌ جدًّا، وكلَّ ما حولي يصوّر لي صعوبة الحياة. كتبتُ قليلًا هذا الصباح، إِنما ولا كلمة واحدة بعد الظهر. كنتُ كأَنني فقدتُ طاقتي ونسيتُ ما عليَّ أَن أَكتبَه. يحدُثُ لي غالبًا أَن أُمضي ساعاتٍ، أَيامًا، أَسابيع، كأَنَّ كل شيْءٍ مات بين يَدَيّ. أَنتِ أَيضًا قد تكونين عرفْتِ هذه الحالة. أَخطرُ الساعات: تلك التي أَشعر برغبة التخلّي عن كلِّ ما وكلِّ مَن، والابتعاد عن كل ما يمكن أَن يساعدني. ولأَنني أَعرف كلَّ هذا، أَلتجئُ إِليك. لو كنتِ هنا الآن، لكان كلُّ شيْء هان. لكنني أَعرف أَنكِ الليلةَ بعيدةٌ ولن تأْتي. لذا أَشعر أَنني فاقدٌ كلَّ شيء، وإِذا ابتعَدْتِ عني فسوف يكون ليلٌ، وبانتظار انقضائه لا أَمل لي بأَن أَراكِ قبل وقت مستطيل.
ماذا تفعلين في هذه الساعة؟ لا أَعرف. ولا أَعرف أَين أَنتِ وبِـمَ تفكرين. أُريد أَن أَتاكَّد من أَفكاركِ ومن حبِّك. أُحسه أَحيانًا فيكِ هذا الحب. ولكنْ… أَيُّ حب يمكننا أَن نتأَكَّد منه؟ ربما حركةٌ واحدةٌ، وينهار كلُّ شيْء ولو للحظة. يكفي أَن يبتسمَ لكِ شخصٌ واحد، ويعجبَكِ لأُسبوع واحد على الأَقل، حتى لا يعود الحب في قلبكِ نحوي، فأَغار. وماذا أَفعل، في هذه الحالة، إِلَّا القبول به وتفَهُّمه والانتظار؟ ومَن أَنا كي أَتَطَلَّب ذلك منكِ؟ ربما لأَنني أَعرف الضعف في أَيِّ قلب قويّ، أَفهم عند الغياب والبُعاد القاهر كيف وأَين أُغذِّي الحبّ بالخيال والذكريات.
الجميع هنا حولي نيام. وأَنا سهران معكِ. لكن روحي قاحلة كصحراء، فمتى يا حبيبتي تشعشعُ زهْوَتنا من جديد؟
أُحسني متهوِّرًا بالحديث عن هذا الحب البكْر الذي يخفق بي ويضغط عليَّ بدون أَي نبضة فرح. أُحسني لم أَعُد نافعًا لشيْء. المفروض حاليًّا أَن أَكون مسكونًا بأَشخاص روايتي ومسرحيتي الجديدة. لكنني أَنظر إِليهم من خارج. ساهمًا أَعمل، بذكائي لا بأَيٍّ من الشَغف الذي أَضعُه عادةً في ما أَكتب.
تعرفين؟ سأَتوقف فورًا عن الكتابة الآن. أُحس كأَن رسالتي هذه كلّها تذمُّر وشكوى، وما بيننا هو أَهمُّ من التشاكي. حين يكون القلبُ جافًّا، السكُوتُ أَفضل. أَنتِ الشخص الوحيد الذي أَكتب له عن هذه الحالة. لكن هذا ليس السبب وليس سيِّئًا. أَنتِ حتى الآن أَحببتِ بي أَفضلَ ما عندي. ربما هذا ليس كافيًا لتسمِّيه حُبًّا. وقد لا تحبِّينني فعلًا إِلَّا متى أَحبَبْتِني بضعفي وأَخطائي. ولكن متى؟ وكم أَنتظر؟ رائعٌ ومخيفٌ معًا أَن يعيش الحبَّ عاشقانِ في خطر وقلق ولااستقرار وسْط عالَم يتداعى، ومع رجل لا تَهُمُّ أَحدًا قصةُ حياته. ولن يكون سلامٌ لي وهناء، طالما وجهُك بعيدٌ عني. إِذا لم تأْتي سأَصبر، إِنما صبرًا ممزوجًا بالمرارة وجفاف القلب.
مساءَ الحب، يا حبيبتي. إِفعلي كلَّ ما تستطيعين لتكوني حَدِّي، وانْسَي كثيرًا من الواجبات والالتزامات والمزاج الـمُرّ. حياتي الآن صعبة، ولي أَسبابي أَلَّا أَكون فَرِحًا. إِذا كان إِلهُكِ موجودًا، يعرف أَنني أُعطي كلَّ ما بي وكلَّ ما لي كي أَشعرَ مجدَّدًا بكفِّكِ على وجهي. لم أَنقطع عن حبِّكِ وانتظاركِ حتى وسْط هذه الصحراء.
ماريَّا: لا تَنْسَيْني.
الحلقة المقبلة: رسالة حُبّ من ماريَّا إِلى أَلبِر
كلام الصُوَر:
- أَلبِر وماريَّا في مناسبة اجتماعية
- أَلبِر وماريَّا: لحظاتُ السعادة
- ماريَّا في حديث صحافي
- ماريَّا على المسرح
- ماريَّا: النظرة التي سَحَرَت كامو