هنري زغيب
في تاريخ الآداب والفنون صفحات مطوية للأُدباء والشعراء والفنانين، منها يوميات خاصة وحميمة، ومنها رسائل حب تبقى مطوية حتى يطوي الموت أَحد العاشقَين فىتظهر إِلى العلَن.
أَهمية تلك الصفحات المطوية أَنها، حين تنفتح، تكشف وجهًا للكاتب قد لا يكون أَراد كشْفَه في كتُبه الصادرة، فتظهر شخصيةٌ له أُخرى في كتابات له حميمة يتعرَّى فيها من كلّ تَلَبُّس، فيراه القارئ كما لم يرَه في مؤَلفاته.
الأَمثلة كثيرة لا تُحصى عن مبدعين خالدين رأَيناهم غير ما كنا عرفناهم من قراءَتنا كُتُبَهم. هنا، في خمس حلقات متتالية، نموذج ساطع عن رسائل الحب اللاهب الممنوع بين الكاتب الفرنسي أَلبِر كامو Camus وحبيبته السِرِّيَّة ماريَّا كازاريس Casarès.
تلك الأُمسية الفاصلة
كان ذلك في پاريس مساء الأَحد 19 آذار/مارس 1944، في سهرة لدى الكاتب والناقد الفني ميشال ليريسLeiris، جرت فيها قراءةُ نص مسرحي سوريالي في ستة فصول وضعه پابلو پيكاسو. تولَّى قراءةَ الأَدوار سهرتَذَاك: ميشال ليريس، جان پول سارتر، سيمونّ دو بوڤوار وآخرون، وتولَّى أَلبِر كامو مراقبةَ القراءة وإِعطاء بعض الملاحظات الإِخراجية. وكان الكاتب پيكاسو يُصغي ولا يتدخَّل.
في رُكْن من القاعة جلسَت تُصغي كذلك صبيةٌ إِسپانية في الثانية والعشرين (ابنة سانتياغو كازاريس: وزير بين 1931 و1936 ورئيس وزراء إِسپانيا 1936)، اسمها ماريَّا كازاريس، جميلة جدًّا، ذكية جدًّا، في مطلع حياتها ممثلةً مسرحيةً بعد تخرُّجها سنة 1942 من “المعهد الوطني للموسيقى والفنون المسرحية”- پاريس.
لفَتَتْها لحظات عبقرية في شخصية أَلبِر كامو (يومذاك في ربيعه الحادي الثلاثين). فكَّرَت في رُكْنها: “لا بدَّ أَنه ممثل بارع”. وما إِلَّا لاحقًا حتى قال لها المخرج مرسيل هيران (مدير مسرح ماتورين Mathurins): “… بل هو كاتب، وسيكون لكِ دور في إِحدى مسرحياته”.
صاعقة الحب
فعلًا، لم يَطُل الأَمر بعد تلك السهرة حتى كانت ماريَّا الممثِّلة تصغي إِلى الكاتب أَلبِر كامو يشرح لها دَور “مرتا”، الشخصية الرئيسة في مسرحيته الثلاثية الفُصُول “سوء التفاهم” بإِخراج مرسيل هيران وبطولته (في دور جان).
بدأَت التمارين، بدأَت ماريَّا تؤْخذ بشخصية الكاتب القوية الجذَّابة، بدأَ هو يؤْخذ بجمالها الأَخَّاذ وذكائها الساطع، وبدأَت عاصفةُ تَعَلُّقٍ سريعةٌ غيرُ عادية تَنسُج خيوط حُبٍّ سيكون له أَن يغيِّر كلَّ حياة الكاتب والممثلة.
قبل أَن ترتفع الستارة عن العرض الأَول في مسرح ماتورين (24 حزيران/يونيو 1944) كانت العاصفة ضمَّتْهُما معًا. ففي اليوم التاريخي الذي احتفلَت به فرنسا بإِنزال الحلفاء على شاطئ النورماندي ضدَّ الجيش الأَلماني (6 حزيران/يونيو 1944) كان أَلبِر وماريَّا “يحتفلان” بأَول لقاء “حميم” بينهما، فاتحةَ حُبٍّ سرِّيٍّ ممنوع سيدوم 15 سنة وستَنتُج عنه رسائلُ حب بين أَجمل ما يتبادل عاشقان من رسائل.
يومها كان أَلبِر يعيش وحده في پاريس لأَن زوجته فْرَنسين (بسبب الحرب العالمية الثانية) كانت عادت سنة 1942 إِلى وطنها (ووطن زوجها) الأَول الجزائر، تُدَرِّس الرياضيَّات في وهران.
قدَر السادس من حزيران/يونيو
ما إِن انطلق كامو (أَوَّل ثلاثة أَشهر) في مغامرته العاطفية الجامحة حتى عادت فْرنسين من وهران إِلى پاريس (أَيلول/سپتمبر 1944) فانكسَرت تلك العلاقة الطرية: ابتعدَت ماريَّا من حياة الكاتب الذي أَخفى تمامًا قصته معها، وعاد يعيش مع فْرَنسين (كان تزوَّجَها سنة 1940) وما هي حتى رُزقَ الزوجان سنة 1945 توأَمَين: جان وكريستين.
ولكن… كأَنما السادس من حزيران/يونيو كان قدرَهما: هو الذي جمعهما سنة 1944، عاد النهارُ ذاته فجمعَهُما بعد أَربع سنوات (6 حزيران/يونيو 1948) حين الْتَقَيا مصادفةً عند زاوية بولڤار سان جرمان، فهبَّتْ في لحظاتٍ عاصفةُ الحب بينهما من جديد، وأَشرقت مجدَّدًا حياةُ عشق مجنون بينهما. وما عادا افترقا طيلة 12 سنة متتالية، حتى انقصف هو في ربيعه السابع والأَربعين محطَّمًا في حادث السيارة الفاجع صباح الإِثنين 4 كانون الثاني/يناير 1960.
865 رسالة في 1312 صفحة
تلك السنواتُ الإِثنتا عشْرة المثمرةُ حبًّا عاصفًا، أَثمرَت كذلك مراسَلَةً ناريةَ العشق بلغَت 865 رسالة منه إِليها ومنها إِليه، كانت أَحيانًا تتقطَّع بفترات قصيرة جدًّا لانتشغالها المهنيّ في جولات مسرحية مع “الكوميدي فرنسيز” و”المسرح الوطني الشعبي” خارج پاريس، وانشغاله الأَدبي والاجتماعي ومحاضراته ومؤَلفاته. مع ذلك كان العصف العشْقي يقوى مع الغياب الموَقَّت والشوق اللاهب حتى يعودا إِلى اللقاء الحضوري وتمضية الأَيام الوردية ومعانقة الزمن العذْب واكتمال السعادة الغامرة.
بعد دَور مرتا في “سوء التفاهم” لعبَت ماريَّا في مسرحية أُخرى لكامو: دَور دُورا في مسرحية “العادلون” (1949).
بعد وفاة فْرَنسين زوجته عن 65 سنة (1914-1979)، توجَّهت ابنتُه كاترين إِلى صديقه الشاعر رينه شار الذي كانت ماريَّا أَودعتْه الرسائل، فسلَّمها المجموعة كاملةً بإِذن من ماريَّا التي كانت تركتْها لديه سنة 1976.
بعد قراءَتها الرسائل، قرَّرت كاترين نشْرها، بتشجيع من دار غاليمار (ناشرة كتُب والدها)، وصدرت المجموعة بحرفيَّتِها الكاملة سنة 2017 في كتاب ضخم من 1312 صفحة، مع مقدِّمة كتبَتْها كاترين عن والدِها وحبيبتِه ختمتْها بعبارة: “شكرًا لهما معًا، فرسائِلُهُما جعلَت الأَرض أَرحَب، والمدى أَسطع، والهواءَ أَلطف، لأَنهما عاشا معًا ذلك الحب الكبير”.
في الحلقات المقبلة: مقتطفات من رسائل هذا الحب الممنوع.
كلام الصُوَر
- أَلبِر وماريَّا : الحبُّ العاصفُ المجنون
- ماريَّا أَمام أَلبِر أَثناء تمارين “سوء التفاهم” (1944)
- أَلبِر وابنتُه كاترين في طفولتها (1955)
- كاترين عند إِصدارها “كتاب الرسائل” (2017)
- غلاف “كتاب الرسائل”: 1312 صفحة