أَرسلَت لي صديقةٌ غاليةٌ أُغنيةً مصوَّرةً للجزائري “الشاب خالد” عن بيروت، أَهداها إِلى شعب لبنان في محنته الكارثية الأَخيرة. ومع تقديري نيَّةَ هذا المغنِّي الطيِّبة، لم أُحبَّ أُغنيتَه لثلاثة: نصِّها البُكائيّ، لحنِها الرتيب، صوتِه النائح.
أَعادني هذا العمل إِلى ما يطالعنا حاليًّا على الشاشات من أَفلام قصيرة وأُغنيات جنائزية تَفَجُّعية على بيروت لا تكون في العادة إِلَّا على ميت راحل أَو على أَطلال زالت معالمها. وكنتُ حسبتُ الوقوف على الأَطلال زال من تراثنا، لكنه عاد طاغيًا في كلماتٍ رثائية رخْوة مائعة نَـدَّابة، وأَلحانٍ حزينة نوَّاحة، وخصوصًا خصوصًا في أَصوات مغنيات ومغنين تتسابق بانكسارها على استثارة الدموع والآهات والغصص لتزيد من الصدمة على فقدان أَحباء، والذهولٍ من فداحة جراح وعُطوب.
لا. أَبدًا. أَرفضُ مقاربة بيروت في نكبتها بهذا الـكَــمِّ الفاجع من النصوص والأُغنيات، كأَنها زالت من الوجود، أَو كأَن أَهلها غرقوا جميعًا في بحر بيروت الحزين. مش صحيح. ها هم نهضوا رائعين إِلى استعادة البهاء في مدينتهم، لا بُكاءً محطِّمًا زخْمَ الهمم بل غضبًا على نيرونيين سَفَلَة يطلُّون من شرفاتهم على حريق بيروت، يمارسون ساديَّتهم بعُهْر سافر، ويغسلون أَيديهم بيلاطسيًّا من نواياهم اليوضاسية التي أَودَت بــبيروتنا الغالية إِلى رماد الصباح من حريق الليل.
خسئُوا جميعًا. بيروت ليست جثَّة في تابوت ولا رمادًا في ناحية معزولة. بيروت أَقوى، أَعظم، أَهَم. بيروتُ جبينُنا العالي لا ضلْعنا المكسور. بيروت شَرَفُنا الذي لا يتدنَّس. بل حكامُها المتناسلون عبر الحقَب هُم المدنَّسون المولودون أَصلًا في بُؤَر الخيانة والتوتاليتاريا و”الـمَعلَيْشية” المجرمة.
النهوض من الكارثة يكون باستنهاض النوايا، لا بالقرع بل بالتقريع، ولا بقصائد وصفية توصيفية تراصفية المعاني والعبارات المعلوكة المكرَّرة، ولا بعنتريات زجلية، ولا بأَلحان تُـهَوْبر كرنـڤـاليًّا، ولا بأَصوات زاعقة مروَّسة غير صالحة لغناء ثوريّ بليغ!
كيف إِذًا؟ باستثارة تاريخ بيروت العظيم، بنداءٍ إِلى شعبها كي ينهضَ من الدَمار إِلى العَمار، بنصوص وأَلحان تظل شاهدة على شعب يَهوي ولا يَسقط، وعلى بيروت الشاهدة لا الشهيدة، فتشهد النصوص والأَغاني على شهادتها في التاريخ.
بعد انقضاء الحزن لن يبقى من كل هذا النُواح الجنائزي سوى رماد تَذروه رياح بيروت القوية، الطالعة من فجيعتها القانعة إِلى أُصولها الساطعة، وتعود بيروت المنارة الرائعة على شط المتوسط، بيروت الحضارة في ذاكرة الزمان، بيروت المدينة الفريدة بإِنسانها، بتراثها، بشعبها الأَقوى من المصائب كما قلب لبنان النابض أَبدًا بشرايين الحياة.
هكذا فلْتَنْكتِب النصوص وتصدح الأَغاني لبيروت العاصمةِ الـملِكَة، بيروتنا جميعًا، أُمِّنا التي يبقى حضْنُها مَلاذَنا مهما تناثرت على حضْنِها رماداتُ فواجع.
قَدَرُنا في لبنان أَن يتحكَّم بنا نظام سياسيٌّ طائفيٌّ محاصصاتيٌّ فاسد يُمعن في تدميرنا، لكنَّ قَدَرَنا أَيضًا أَن نُواجهَ سُلطته حتى إِسقاطها.
وما سوى هكذا نستحقُّ لبنان وتستحقُّنا بيروت.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com
www.henrizoghaib.com
www.facebook.com/poethenrizoghaib