هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

“أَزرار” – الحلقة 1075
ثقافةٌ نخبوية/ثقافةٌ شعبية
“النـهار”  –  السبت 23 شباط 2019

يَثْبُتُ يومًا بعد يومًا أَننا نَـمُرُّ في المرحلة ذاتها كتلك التي تَغَيَّرَ فيها العصرُ كليًّا بالثورة الصناعية مع دخول الآلة وانتشارها في أَواخر القرن الثامن عشر ومطالع القرن التاسع عشر. فالثورةُ الرقميةُ اليوم وضَعَــتْــنـا عند مفترقٍ صارمٍ بدأَت طلائعُهُ تتجلَّى بانحسار القراءة الورَقية (صُحُفًا وكتبًا) أَمام حالاتٍ من القراءَة على الشاشة موغلةٍ في الاتساع.

من هذه الحالات، مثلًا، في بعض المنصات الافتراضية، فقرةُ “الأَكثر قراءةً” أَو “القرَّاء يقرأُون اليوم”، تنشرُها المواقع الإِلكترونية فتشكِّلُ استفتاءً تلقائيًّا يشير إِلى الأَنواع المطلوبة من المواضيع المرغوبة التي تشُدُّ القراء إِلى شاشة الهاتف المحمول أَو الكومـﭙـيوتر الثابت، فإِذا هي في أَغلبيَّتها الكبرى من النوع الخفيف عن فضيحةٍ جنسية أَو أَخلاقية، أَو أَخبارِ ممثلةٍ اشترَت ثوبًا فاخرًا، أَو مغنِّية بدَّلت سيارتَها، أَو طلاقِ فنان، أَو طرائفَ عن الحيوانات، وجميعُها مرفَقَةٌ بالصور أَو بفقرات ﭬـيديو. وتروح أَرقام الدُخول الإِلكترونية والمشاركات على وسائط التواصل المتعدِّدة تشير إِلى تهافُت القرَّاء على هذه الأَخبار السطحية الخفيفة. ونادرًا ما لاحظتُ إِقبالًا لافتًا بأَعدادٍ لافتة على صدورِ كتابٍ جديد، أَو حدَثٍ فكريّ أَو علميّ، أَو خبرٍ ذي قيمةٍ فنية أَو ثقافية، ما يدُلُّ على أَن الثورة الإِلكترونية تُؤَثِّـر على توجُّهات المشهد الثقافي التقليدي.

هي الثقافة بمعناها العام تُغَيِّر معيارَها مع العصر، حتى لَيَجدر التوقُّفُ سوسيولوجيًّا عند هذه الظاهرة الرئيسة لدراسة ملامح العصر الحديث وتأْثيرها على القراءة أَنواعًا ومواضيعَ وقرَّاء.

ولكن… هل تلك المواضيع تساعد القراء على استقطابهم إِلى الأَجْوَد أَم إِلى الأَفسَد؟

في مجلة “ماري كلير” الفرنسية قرأْتُ قبل أَيامٍ مقالًا عن كاتبة جديدة حقَّق كتابها الأَول “البحَّار الكبير” Le grand marin مبيعًا مذهلًا: 38 أَلف نسخة في بضعة أَسابيع، مع أَن كاتبَتَه كاترين ﭘـولان Catherine Poulain  مجهولةٌ، فهي راعية غنم بسيطة (55 سنة)  كانت تكتُب بِـخَجَل وتُخفي أَوراقها، حتى ظهرَ هذا الكتاب. وكذلك أُوليـﭭـيـيـه بوردو Olivier Bourdeaut وهو كاتبٌ جديدٌ أَصدر كتابه الأَول “في انتظار بوجانغل”  En attendant Bojangles وسجَّل مبيعَ 130 أَلف نسخة في بضعة أَسابيع. ومثله المجهول الآخر جوزف أَندراس  Joseph Andrasفي كتابه “عن إِخوَتنا الجرحى” De nos frères blessés وهو فاز بـ”جائزة غونكور للكتاب الأَول”.

إِنها الثقافة بمضمونها البسيط تستقطب قُــرَّاءَها، وتفتحُ آفاقًا مفاجِـئَـةً بدون أَيِّ معيارٍ تقليديّ للكاتب أَو الناشر.

وإِنه، أَوَّلًا وأَخيرًا، في لغة عصرنا اليوم، دورُ وسائل الإِعلام ووسائطِ التواصل أَن تُسهم في الترويج لعملٍ جيِّدٍ كي لا يبقى الجيِّدُ مجهولًا ومغمورًا على رغم جدارته، لا أَن يقتصر ترويجُها على “صرعاتِ موضة” أَو “خبطاتٍ صحافية” تزيد من تسطيح الثقافة وتوسيع مساحة الــ”أَكثر قراءَةً” إِلى مدًى يؤْذي الإِبداع الحقيقي ويغيِّبُ المبدعين الأَصيلين.

هـنـري  زغـيـب

email@henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib