هنري زغيب
وسْط الحروب التي تتشظَّى نيرانُها بين دوَل متحاربة بشراسة، يَسقُط فيها أَبرياء ويذْعَر فيها مهجَّرون ولاجئون، نعود 90 سنة إِلى الوراء، فنستذكر مراسلة تاريخية سنة 1932 بين عالم الفيزياء أَلبرت آينشتاين (1879 – 1955) وعالِـم التحليل السيكولوجي سيغموند فرويد (1856 – 1939). وهي صدرَت كتيِّبًا مستقلًّا في معظم لغات العالم لِما فيها من عمْق في استشراف عبثية الحروب ومأْساوية ضحاياها.
هنا الجزء الأَول من هذه المراسلة: رسالة آينشتاين إِلى فرويد، وفي الجزء التالي جواب فرويد.
بوتسدام – 30 تموز/يوليو 1932
يا سيِّدي وصديقي
أَسعدني أَن تدعوني “جمعية الأُمم” و”المؤَسسة الدولية للتعاون الفكري” في باريس، إِلى مراسلة حُرَّة مع مَن أَختاره حول موضوع وفْق مزاجي، لأَنهما أَعطتَاني فرصة ثمينة أَن أَتحاور معك حول مسأَلة أَجدُها راهنًا في قلب الحضارة: هل من وسيلة تساعد البشر على تخطِّي تهديدات الحرب؟
فلْنتَّفق بدايةً أَن التقدُّم التكنولوجي أَبرزَ أَهميةَ هذه الـمُسَاءَلَة لإِنسان اليوم، وفشلَ الجهود المضنية لحل هذه المسأَلة التي تتزايد الاستفسارات عنها خصوصًا لدى مَن يتعاطون، عمليًّا ومهنيًّا، شؤُون العلوم فتُبْعدُهم عن مشاكل الحياة.
طبيعة الإِنسان الداخلية
ولأَن طبيعةَ أَبحاثي العلْمية ليست تعينني على غَور إِرادة الناس ومشاعرهم، أَطرح هذه المسأَلة عليك لا لحلولها الخارجية بل لتُنير، بخبرتك العميقة، طبيعة الإِنسان الداخلية. وأَثق أَنك ستعطي حلولًا تربوية مغايرة عن السياسة، تشرح ظواهر سيكولوجية يشكِّك بها مَن يجهلها ولو انه يقدِّر وجودها وتحوُّلاتها.
أَتجاوز الأَحكام الوطنية المسبقة لأَرى وجه المسأَلة الخارجيَّ في جوهره وعناصر تكوينه بسيطًا كما يلي: تتشكَّل في الدول سلطة تشريعية وقانونية لتخفيف صراعات قد تنشأُ بينها، فتلتزم احترامَ قوانين تسُنُّها سلطتُها التشريعية، وتلجأُ إِلى المحاكم إِزاء القضايا الإِشكالية، وتنصاع بلا تحفظ إِلى الأَحكام وتنفِّذ الإِجراءات التي تراها المحكمة ضرورية.
شهوة الحُكْم السياسية
هنا أُواجه صعوبةً أُولى: المحكمة تنظيم بشريّ يبدو في قراراته أَقرب أَحيانًا إِلى إِصدار أَحكام خارج القوانين المسنونة. لذا أَرى أَن الحقَّ والقوةَ متلازمان، وأَن الأَحكام الصادرة أَقربُ أَحيانًا إِلى العدل المثالي لدى جماعةٍ يَصدر باسمها الحُكم وفق قدرتها على فرض “عدلها المثالي” بالقوّة. ولا أَعرف اليوم منظمة دولية عليا ذات محكمة تفرض محكمتُها سلطةً لا تقاوَم، وتضمن تطبيق عقوباتها.
هذا هو المبدأُ الأَول: الطريق المؤَدِّي إِلى الأَمن العالمي يفرض على الدول تخلِّيها غير المشروط عن جزء من حرية تحركها، أَي عن سيادتها، فلا طريق آخر لتحقيق هذا الأَمن. ونظرة عجلى إِلى فشل هذه الجهود، رغم نواياها الصادقة وما نتَج عنها في السنوات العشر الماضية، تُظهِر وجود قوى نفسية صلبة تشلّ تلك الجهود، منها ما يظهر جليًّا، ومنها تُخفيه شهوة الحكم في دولةٍ تحدُّ طبقتها الحاكمة من تأْمين السيادة في حقوقها. وهذه الشهوة السياسية تذكيها ادعاءات فئة ثانية بقوَّتها الاقتصادية، وفئة ثالثة، ضئيلة لكنها عنيدة، لا تكترث للتجارب والعوامل الاجتماعية، أَفرادُها يفرضون سلطتهم بالحرب وتجارة السلاح والبحث عن منافع خاصة لهم ولحلفائهم. هكذا أَفهم الظروف والأَحوال المحيطة بتلك الفئات الثلاث، وأَسأَل: كيف تلك الأَقليةُ تسخِّر لرغباتها أَكثرية شعبية لا ينالها في الحرب سوى الفقر والعذاب، فيما تلك الأَقلية الحاكمة توهمها بادِّعاء الدفاع عن خيرات الشعب بحجة أَن الهجوم أَفضل وسيلة للدفاع؟
تَحَكُّم الأقليات الحاكمة
لا أَرى جوابًا عن سؤَالي إِلَّا أَن تلك الأَقلية الحاكمة تتحكَّم بالمدرسة والصحافة والمؤَسسات الدينية، وبها تسيطر على عواطف الشعب وتوجهه تطويعًا فيصبح قسريًّا أَداتها المطيعة العمياء.
وهذا الجواب يقودني إِلى عوارض مذهلة، منها: كيف الشعب، بهذه الوسائل القمعية ضدَّه، ينساق عميانيًّا وراء جلَّاديه حتى الجنون والتضحية؟ ولا أَرى تفسيرًا سوى أَن في عمق الإِنسان حاجةً دفينة إِلى الحقد والتدمير، تكون راكدةً في الحالات العادية وتنكشف في فترات متوترة عند إِيقاظها بسُهولةٍ في موجة حَراكٍ جَماعيّ. هذا هو المفتاح السرّيّ الذي أَراه، ووحده العارف مثلكَ بالغرائز البشرية يمكنه أَن يشرحه. لذا أَسأَلُ خبرتَك: هل من طريقة نفسية توجِّه نمو الإِنسان كي تكون لديه مناعةٌ ضدَّ نوبات الحقد والتدمير؟ وهنا لا أُفكِّر بطبقة الأَفراد الجهلة فقط، ففي مشاهداتي أَن طبقة الإِنتليجنسيا هي أَيضًا تكون ضحيةً سهلة للممارسات الجماعية القاتلة إِذ ليست معتادة على الاتعاظ من تجارب شفوية معاشة بل تغرق بسهولةٍ في وَهْم النصوص المكتوبة والمطبوعة.
أَشَدُّ الصراعات قسوةً
وختامًا: لم أَذكر هنا سوى الحروب بين الدول، أَي الصراعات الدولية. لكن الشراسة البشرية تتجلى أَيضًا في طرُق أُخرى وظروف أُخرى (كالحرب الأَهلية ماضيًا لدوافع دينية وحاضرًا لدوافع اجتماعية، أو كتحريض الأَقليات الوطنية وتجييشها). ولذا أَتساءَل عن أَشَدِّ أَشكال الصراعات قسوةً بين الجماعات البشرية، فمن هذه الأَشكال تُولد أَفضل الطرق لتجنُّب النزاعات المسلَّحة.
أَعرف أَنكَ، في كتاباتكَ، أَجبْتَ، مباشَرَةً أَو مداوَرَةً، عن جميع هذه المسائل التي تَهُمُّنا وتُداهمنا. لكن فائدة كبرى ستَنتُجُ عن توسيع شرحك مسأَلة السلام في العالم وفْق نتائج أَبحاثك الأَخيرة، لأَن شرحكَ إِياها سيكون مصدرًا جديدًا لجهود مثمرة جديدة.
بكل احترام: أَلبرت آينشتاين
(تلك رسالة آينشتاين وأَسئلتُهُ، فما كانت أَجوبة فرويد؟ الجواب في الجزء التالي من هذا المقال).
كلام الصُوَر
– آينشتاين الدائم الأَسئلة “النسبيَّة”
- الطبعة الأَلمانية الأُولى من كتيِّب الـمُراسلة (باريس 1932)
- آينشْتاين مع بعض طلَّابه في جامعة برنستون (1930)
- فرويد – أَجوبتُهُ في المقال المقبل