هنري زغيب
14 نيسان: ذكرى ميلاد وليد غلمية (1938- 2011).
لا يهدَأ.
قدَره كان أَلَّا يهدأ. منذ عرفتُهُ حتى ودَّعتُه عند ضريحه في جديدة مرجعيون، وهو حركةٌ وتَطَلُّعٌ وإِنتاج.
وبقينا، نحن شلَّة أَصدقائه وجمهور محبيه، نتذكَّره كأَننا سنجيْءُ إِلى أُمسيته الموسيقية ويكون ينتظرُنا في ختامها بعد انحناءَته الأَخيرة عند التصفيق الأَخير حين يحيِّي الموسيقيين، فتنبسط عليهم هالة المايسترو الذي اعتادوا إِشارة عصاه كي تنطلق السمفونيا.
حضور لبناني وعربي
أَتذكَّر سمفونياه الأَخيرة “الفجْر” (2007)، أَهداها “إِلى العقل النيّر والإِلهام المتفرّد الذي يستشرف المستقبل برؤْيا وواقع معًا، وبكلّ ما في التفرُّد من تصوُّر وإنْجازات”. هكذا كان يرى الهالة الموسيقية في لبنان: فجرَ الآمال والأَلوان والأَنوار، فجرَ الطموحات واليقظة والنهضة، فجرَ وعيٍ إِبداعيٍّ تربويٍّ ثقافيٍّ تَخنقُه في شعبنا مُمارسات السياسة اليومية. أَراد الحياةَ حكايةَ الفرح والحزن واليأْس والحرمان معًا. من هنا كانت موسيقاه ميلوديا مطعَّمة بنكهة شرقية، تطرِّزها حركةٌ تصاعُدية لولبية وتماوجاتٌ دورية ذاتُ هالةٍ وفخامة تُمَوسِقُها الوتريات وآلاتُ الإِيقاع والضرب والنقر وترفُدُها آلاتُ النفخ غلافاً للوتريات المحيطة.
ولم يكن يهدَأ.
أَتذكر سمفونياه “الشهيد” (1981) نسجَها في تَأَمُّل وصفاء، مستقاةً من الفولكلور العراقي (وضعها بتكليف من وزارة الثقافة العراقية)، فصوّر فيها مقاطع الشجن (كأَنّها موكب تشييع جنائزي) ومقاطعَ الْتفاف ميلوديّ دائري يتكرَّر بين فاصلة وأُخرى حتى تصدح صرخاتُ الحرية مدوّيةً عاليةً إِكرامًا للشهيد، في خاتمة تصاعُدية كما إِطلاق أَجنحة من قيودها.
وأَتذكَّر موسيقاه في “رقصات” من ليبيا، وفي فلسطينيات مؤثِّرة: “نشيد الجبهة”، “نشيد الرفض”، “نشيد الثورة”، بتكليف من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
وأَذكره في “حوار عاشقَين”: حوارية جميلة وضعها لإِحدى مسرحيات فرقة كركلَّا، طرَّزها بنكهة شرقية يتبادل حواراتها عاشقان (مع العُود والقانون والدَّف) على إِيقاع آلات النقْر المتمازجة رَفَّاتُها مع وتريات تجعل حوارَ الحب دافئًا حنونًا في حميمية اللقاء، ينتهي على إِيقاع فرحٍ في زوغة الكمانات.
ولم يكن يهدأ.
الميلوديا اللبنانية
منذ التمع اسمه قبل ستة عقود وهو في حركة. منذ كلَّفتْه لجنة “مهرجانات بعلبك الدولية” و”فرقة الأَنوار” سنة 1963 وضْع موسيقى مسرحية “الشلال” لروميو لحود وشعَّت فيها من أَلحانه أغنياتٌ لصباح، تاجُها “يسلم لنا لبنان جنة أَمانينا” (شعر يونس الابن).
ونجح الثنائي لحود – غلمية، فكانت أَعمال مسرح “المارتينيز” و”الفينيسيا” (موال”، “عتابا”، “ميجانا”)، وأَكمل غلمية في ميلوديا المهرجانات: بعلبك، جبيل، إِهدن، الأَرز، نهر الوفا (نهر الكلب)، وراجت من أَلحانه الأغاني الشعبية ذاتُ المذاق الريفي العذب.
وناداه المسرح فلبّى: تلحين “نشيد الفدائي” لمسرحية “مجدلون” (إخراج روجيه عساف)، موسيقى مسرحيات “ميخائيل نعيمه”، “أَعرب ما يلي”، “جبران”، “بلا لعب يا ولاد” (إِخراج يعقوب الشدراوي)، “شربل” (إِخراج ريمون جبارة)، “الزنزلخت” لعصام محفوظ،…
وناداه الشعر فلبَّى: موسيقى كتاب “قوافل الزمان” شِعر توفيق يوسف عواد، موسيقى كتاب “أَنا الأَلِف” شِعر حسن عبدالله، ملحمة “القطار الأَخضر” شِعر سليمان العيسى (سوريا).
ونادتْه السينما فلبّى: موسيقى فيلم “كفرقاسم” لبرهان علوية، وفيلم “بيروت يا بيروت” لمارون بغدادي و”القادسية” لصلاح أَبو سيف.
وتخلَّى عن التلحين الشعبي والفولكلوري، وراح ينحت في الموسيقى الكلاسيكية، فأَنتج منها ست سمفونيات: “القادسية”، “المتنبي” “اليرموك” “الشهيد، “المواكب”، “الفجر”.
الرئيس المؤَسس
ولم يكُن يهدَأ.
حين أَسندَت إِليه الدولة رئاسة الكونسرڤاتوار الوطني اللبناني (1991) جعل منه مؤسسة عُليا للتعليم العالي: وسَّع فروعه، وضَع مناهجه، وحقق فيه أَسمى ما يمكن المؤَلِّف الموسيقي أَن يحلم به: فرقة تعزف أَعماله. هكذا نجح سنة 2000 في تأْسيس “الأُوركسترا اللبنانية السمفونية”، ثم رفعها إِلى فيلهارمونية، وأَسس “الأُوركسترا اللبنانية الوطنية للموسيقى الشرق عربية”، وكان القائد الرئيس للفرقتين.
حين غاب في 7 حزيران 2011، غاب وحده. أَثرُهُ لم يَغِب. ما زالت موسيقى تينِك الفرقتَين تستعيده في كل أُمسية، وحين يَتوقف العزف، وحين يقف الموسيقيون، وحين يتعالى التصفيق لذكرى المؤَسس. يَطول التصفيق. ينتظره الجميع ينزل من الذاكرة كي يقفَ كالعادة على منصَّة القيادة، ينحني شاكرًا، ويَضمُّ عصاه إِلى صدره ويغادر، يواعدُهم بالرُّجوع في الأُمسية التالية.
لكنّ غصَّتنا تُوجِع: نعرف أَنه في الأُمسية التالية… لَن يعود.
كلام الصور:
وليد غلمية: التحية الأَخيرة
1 – تجديدُه الموسيقي
2 – المتعدِّد الحقول الموسيقية
3 – نشوة التأْليف والقيادة
4 – من أَعماله في المهرجانات