في الاحتفاء بـ”تجاعيد حبر” لرشيد درباس – “مركز الصفدي الثقافي” – طرابلس
عجبتُ له، رشيد درباس، وهو يَهيم تيَّاهًا في فضاء الشعر، كيف يُحاذي النظْمَ في لحظة وعي فيُحاذر السردية في إِخوانية “يؤَرجِزُها” ببراعة المطايَبات كي لا تقعَ في فضيحة النظْم.. ذلك أَنْ بين النظْم والشعر فاصلٌ مائيٌّ لا يفتضحه سوى بارعِ الشَمّ في جونة العطَّار.
ودِدْتُني لا أَدخل في نماذج من “تجاعيده”.. فاللحظة المنبرية شَفاهةً غيرُها مستريحةً على الورق، شرطُها إِيجازُ أَنْ “تُكَبْسِلَ” الربيع في زرِّ ورد، وتلتمعَ شرارتُها في ومضة برق يترك بعده في السامعين رعدًا كثيرًا.
سوى أَنني لا أَعتكف : لا بُدَّ من لَمْعٍ أَقطِفُه فأَختصر شرحًا عنه مديدًا.. فكيف، في تمييزيَ بين الشِعر والنظْم، أُشيح عن قولتِه الثاقبة: “ربَّ نصٍّ يكون شعرًا خالصًا وإِنْ خارجَ العَروضِ وجِرْسِ القوافي، ونصٍّ آخَر يفقدُ فنيَّتَه ولو مزيَّنًا بتسجيعٍ أَو محشورًا في قوالبِ البُحور”. وإِنه هنا نَبعُ الحقيقة في البث: الشعر هو الكلام المغاير بين عاديّ الكلام، لا يؤْتى إِلَّا للأَصفياء يعطاهُمُ نسجًا تهديه نخبةٌ إِلى العامة.. هكذا يتنزَّل الشعرُ في لاوعي الوعي حتى إِذا حلَّ الوعيُ فاح أَرَجُهُ ضَوعًا لِمَن يستحقُّون.
لذا لا عُمْر للشعر كما لا عُمْر للشاعر : “أَنا ما زلتُ فتى رُغم أَكداس السنينْ… لستُ أَدريه متى فأَنا عكْسُ اليقينْ”. وإِنه حقًّا عذْرُ هذا الشاب الثمانيني أَن يصبو إِلى شهقة حُب : “كلُّ حَرْفٍ طافَ في عَيْنِ قَلَمْ، صَارَ أُنْثى، وَلَها الاسْمُ العَلَمْ، والقَوامُ السَّطْرُ نَــزَّتْ فَوْقَهُ شَهْوَةُ الحِبْرِ ارِتْعاشًا وأَلَمْ.. تَحْبَلُ الـوَرْقَةُ بِكْراً عِنْدَما تُصْبِحُ الكِلْمةُ مِنْ لَحْمٍ وَدَمْ”. من هذه الصَبْوةِ اللمَّاحة لا يعود رشيد درباس “شيخَ الشباب” بل “شابَّ الشيوخ” يَسَّاقطُ في شِعره انهمالاتِ غاردينيا وأُغنوجةَ مانيوليا في مزهرية وعد.
بهذا الدأْب الجَلود في نَسْج القصيدة على نَوْل الجمال، يَطْلع لنا مطَّلعًا طلَّاعةً في دقَّة البحَّاثة الطُلَعة.. فالشعر ليس في القصيدة وحسْب.. الشعر يُشْرق من ضحكةِ طفلة أُغنوجة، أَو تلويحةِ شمس عند الغروب، أَو بسمة وردة تأْرج متَّكئةً بدلالٍ على سياج.. هكذا يطيبُ الشعر مرفوعًا إِلى “حلوة العينين” وهي، قبل دخولها إِلى الصلاة، تُضِيْءُ شمعة على اسم حبيبها الشاعر.
من أَين يأْتي الشعر؟ من حيثُما لا هو يدري ولا الشاعرُ يعي.. إِنها لحظةُ الْمابعد يستعيرَها الآنُ كي يغذِّي ذاكرةَ ما كان.. ولأَنَّ شاعرنا الــ”رشيد” يعرف ذلك، وعييًّا أَو لاوعييًّا، يَبوح لِذَاته قبل بثِّه قرَّاءَه: “سَعْيًا إِلى فَيْءٍ كَسولٍ، هَرَبًا مِنْ لَسْعِ شِعْري والشَّظايا الحارِقَهْ.. وَجَدْتُ نَفْسي أَشْتَهي خَليلةً جَديدةً حَتَّى تَظَلَّ ريشَتي تَغُوصُ في المحَبْرَةِ الـمُراهِقَهْ”! أَلَا نِعِمَّا هذا البوح في هيكل الشعر، يرفُدُه التزامٌ آخرُ لا أَقلَّ منه قدسيةً: “هَيْكَلُ الشِّعْرِ عمودٌ راسخُ الشَّطْرَيْنِ في البحرِ الـمُحَلّى.. زورقٌ إِن سَخَّرَ النَّوْرَسَ قِلْعًا جَعَلَ الرِّيحَ دَليلًا وسنا الروحِ مَطَلّا”.
معه حق.. فهكذا دائمًا موعدُنا مع الشعر : رقصُ شعاعاتٍ هَيمى على ميلوديا الجمال، وَقْعُ فراشةٍ حافيةٍ على بَتْلَة وردة، حوارُ أَهداب مع هسيس الكلمات، لحظةَ سنابلُ عاشقةٌ تتناغى على نوستالجيا أَحلامها، فَـــ”تَتَمَوْسَمُ” البيادرُ إِذ يتذهَّب الجنى متنقِّلًا على رؤُوس الكلمات حتى تولدَ القصيدة في صَدْحة الـ”يا هلا”.
في حضرة الشاعر الشاعر، ندنو بتَهَيُّبٍ من مقدِس الشعر.. فالفرّيسيُّون كُثَار، والحَرَمُ في انتهاك، والمحرابُ في ارتيابٍ من جُموع المصلّين.. هذا الارتياب وذاك الانتهاك ليسا مِمَّن آمَنوا، بل من ضِعاف إِيمانٍ بسببِهم يتخبَّط الشعر في هَذَر إِشكالِيٍّ يَطْلَعُ علينا بِاسم الشعر. لذا “يَتَدَربَسُ” شاعرُنا بحَزمٍ وحسْم وعزْم كي يظلَّ نقيًّا في قلْب الشعر، فتُشرقَ به القصيدةُ وضَّاءَةً في فَيْءِ ناقوس.. والشاعرُ الشاعر مَن يعرفُ كيف “يُؤَبْجِدُ” الشعر من جديد مع كل قصيدة جديدة.
صديقيَ “الرشيد”، يا “مُجَعِّد الحبر”: ستَبقى دائمًا جَعدةٌ واحدةٌ تنتظركَ لهفى في هيكل الشعر.
إِنها القصيدةُ التي لم تَكْتُبْها بَعد.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com