كأَنما هذه الحلقةُ الأُسبوعية، صباحَ الأَحد، تحوَّلَت تدريجيًّا قراءةً هادئةً كتابًا عن بيروت خصوصًا، وعمومًا عن لبناننا الجميل. وأُحبُّ ذلك… أُحبُّ أَن أَمضيَ في هذا التحوُّل فأَختصرَ لكم كلَّ أَحدٍ، في حفنةِ دقائقَ، كتابًا بأَبرز عناوين مضمونه.
أَمامي الآن كتابٌ جميلٌ جدًّا للكاتب والمصوِّر كامل جابر عنوانه “نوافذ على الخيام”، في حجمٍ موسوعيٍّ كبيرٍ من 160 صفحةً مشرقةَ الأَلوان أَنيقةَ الإِخراج بعنايةٍ جماليَّةٍ ذوَّاقةٍ من مؤَسسة “شمالي إِند شمالي”، وغلافٍ جذَّاب تطلُّ فيه “الخيام” من نافذة “دير حنِّة”.
وكنا اعتدنا سابقًا على مجموعة أَنيقة من كتُبٍ شبيهةٍ بقلم وكاميرا كامل جابر معظمُها لمنطقته الجنوبية الغنية بالآثار والجمال.
الكتابُ الجديد “نوافذ على الخيام” تتصدَّرُهُ كلمة من المهندس عدنان العلَيَّان رئيس بلدية “الخيام” التي لها فضلُ طباعة الكتاب عن لؤْلؤَة “الخيام” التي “… تتربَّع على عرش القلب بحبر الفخر والوجدان وأَبجدية الصمود والشهادة وعشق الأَرض والتراب”.
تليها كلمةٌ مؤَثِّرةٌ كان كتبها الشاعر محمد علي شمس الدين لم يَرَها في الكتاب لأَن وفاته داهمته في أَيلول الماضي فلم يقرأْ قولته إِن كتاب كامل جابر يختصر جمالات بقعة لبنانية “…كما الجنة: رعيان وقطعان ومواسم زيت وزيتون وعنب بيتموني ولوز ورمان وقمح هو سيد السهل ودراق وسط طنين النحل والعسل المصفى ولقلاق وحجَل وعُقاب… كلُّها في فردوس لا يكتمل إِلَّا بالصورة المعبِّرة والشعر الصافي”. صَدَقَ محمد علي في وصفه لأَن في عين كامل جابر قصيدةً من بهاءٍ ونورٍ، تلتقط هنيهاتِ المنظر في أَصفى تجلِّياته الطبيعية، لكأَنَّ في كل صورة من هذا الكتاب الجميل حكايةً تتناقلُها الذاكرةُ من جيلٍ إِلى جيل، عن بلدة جبَّارة في جنوبنا الغالي، عانَت من القهر والاستبداد الهولاكيّ إِبان الاحتلال الإِسرائيلي أَرضَها في مجزرة مَهُولة سنة 1978 وتحويلِ ثُكنة “الخيام” معتقلًا رهيبًا مارس فيه الإِسرائيلي وحشيته الغريزية بعد معتقل أَنصار الذي أُقفِل سنة 1985.
وينساب الكتاب… ينسابُ صفحةً بعد صفحة، نظرةً بعد نظرة، خطوةً بعد خطوةٍ في ربوع “الخيام”، صُوَرًا تعقُبُها صُوَرٌ من جميلٍ إِلى أَجمل: من سوقِ الخميس فيها إِلى نبعِ الدردارة فنهر الحاصباني، فمطحنة الوزاني فمطحنة الرُقَيْقة، فالقناطر فالكينا العتيقة فالجاروشة، فنبع إِبل السقي فمياه مرج الخوخ فعين أَبو مزراب، فسهل “الخيام” فوطى “الخيام”، فتلَّة دبّين فجبل الشيخ، فتقاليد الحصاد والتحدي، فخبز التنُّور فمواسم المونة اللبنانية، فالسياحة في ربوع “الخيام” ومنتجَعِها الهنيّ، فالغروبِ الذي يغتسل في مياه الدردارة، فلوحاتِ الطبيعة الساحرة والبيئة المتميزة المفتوحة على الجمالات بين مالك الحزين صديق المرج والتوت البري وزهر القندول المتباهي بأَصفره الوضَّاء، فزيارةِ المقامات الروحية في “الخيام” من مسجدها ومقام ناصر بن نُصير إِلى الكنيسة الإِنجيلية فكنيسة السيِّدة فكنيسة مار الياس الحي وكنيسة مار أَنطونيوس الكبير… ولا تنتهي الجولة قبل زيارة دُور عريقة وقصور فخمة، وقلعة الشقيف قبالة الخيام يرى إِليها أَهل الخيام “…صبيَّةً متراميةَ الثوب على الهضبة الشرقية عند سفح جبل الشيخ، هندامُها السهل والروابي وجبابُ الماء والخير، من خلفها يَنهضُ القمر وتبْيَضُّ عمامةُ حرمون”.
هكذا، عند كل صورة في كلِّ صفحة من هذا الكتاب الجميل، مَلمَحٌ من كامل جابر: مرَّةً بقلمِه الشاعري، مرةً بكاميراه الذكية، مُعلنًا منذ البدء في مقدمة الكتاب: “… قبل معاينة “الخيام” بعين الكاميرا عاينتُها بعين القلب وفرحِ العاشق بجميلةٍ عرَّشها الخالق على سيادة جبلٍ ومتَّسَعِ فضاء، إِذ يَندُر أَن تجدَ مثلها مدينةً تتعلَّق بأَربعة أَذيالها سهولٌ ومروجٌ خضراء وينابيعُ ماءٍ تجعلُ كلُّها من “الخيام” عاصمةَ الشغَف في هذا الجنوب اللبناني الرائع”.
أُغلق هذا الكتابَ/السِفْرَ الجميل، يتناهى إِلى سمْعي صوتُ سعيد عقل في وداع صديقه الكبير أَنطُون قازان:
“الجنوبُ… اشمَخْ به رأْسًا رضًا كان لبنانُ إِذا كان الجنوبُ”
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com