هنري زغيب
هذا النور الفضي فوق، في عتمة الجَلَد، ما زال يُضِيْءُ ليالي العاشقين والسَهارى، فيُؤْنسُهم ويرافقهم، حتى إِذا كان بينهم شعراء تغنَّوا به، أَو فنانون فرسموه أَو أَلَّفوا له مقطوعات موسيقية.
في هذا المقال أَتوقَّف عند الرسامين فأَستطلع، بإِيجازٍ، كيف رأَوا هذا النور، وكيف رسموه، وما الذي عنى لهم، هلالًا أَو بدرًا. وفي حالتَيْه هو القمرُ الجميل الذي كتب له الأَخَوان رحباني وغنَّت له من لحنهما الخالدةُ فيروز: “نحنا والقمر جيران”.
من هُم أَبرز الرسامين الذين استلهموا القمَر في لوحاتهم؟
- إِدوار مونش (1863-1944)
رسام نروجي، اشتهر بلوحاته التعبيرية مختصرًا فيها جَو العصر الجغرافي الذي عايَنَه، والبيئة الطبيعية التي عاش فيها. من هنا أَن رسْمَهُ القمر هنا ليس تصويرًا حياديًّا فحسْب، بل هو انعكاس نفسيته ومزاجه. وهو تعمَّدَ الخطوط العمودية في اللوحة دلالةً على هذا التشنُّج في ذاته الداخلية العميقة المتأَرجحة بين القلَق والأَمان.
- وليم تورنِر (1775-1851)
رسام إِنكليزي، اشتهر بلوحاته الزيتية والمائية، وبأَن معظمها مشاهدُ ليلية بما في الليل من غرابة صوَر وتصورات، خصوصًا تلك التي انتشرت بمناظرها البحرية. وهو في هذه اللوحة رسم نَوًّا بحريًّا هائجًا بعنف، ومركبًا فيه صيادون يتأَرجحون اضطرابًا، ذات ليلة عاصفة ينير غضبَها قمر يحاول أَن يبث بعض النور على الصيادين الخائفين من رهبة الخطر الداهم الذي لا يستطيعون إِلى ردّه سبيلًا. وهذه اللوحة كانت أَول عمل يعرضه لدى “الأَكاديميا الملَكية” في لندن، وكان لها صدى واسع مميَّز بين سائر لوحات المشاهد الليلية في عصره.
- هنري روسُّو (1844-1910)
رسام فرنسي غير أَكاديمي الدراسة المنهجية. درس وحده وتدرَّب وحده. ظهر في المرحلة ما بعد الانطباعية فاختطَّ لأَعماله نهجًا خاصًّا تميَّزَ بالغرابة في أُسلوب التعبير، وبخطوطه البسيطة المقتربة نوعًا من الرسم الساذج. شاعت أَعماله بين الأَكثر شعبية وشهرة في عصره، مع أَنه نال الكثير من سلبية الرسامين حيال أَعماله التي استقطبت طليعيي القرن العشرين بما جاء فيها من رُؤَى جديدة وغريبة، استمدَّ معظمَها من وقائع تاريخية، برزَت فيها غرابات أَلهمَت شعراء مكرَّسين مثل أَندريه بروتون، ورسامين مكرَّسين مثل بيكاسو. وفي لوحته هذه تظهر امرأَة نائمة يقترب منها أَسد لا يبدو أَنه ينوي أَذيتها، كأَنه – أَمام أُنوثتها الغافية – تَحَوَّل حيوانًا داجنًا أَليفًا.
- فان غوخ (1853-1890)
يبدو أَنْ لا بُدَّ من فان غوخ في كل موضوع انطباعي، أَو في كل مشهد منسوخ من الطبيعة أَو عائد إِليها، وخصوصًا في كل ما عُرف عنه من لوحات ليلية عالج فيها القمَر وأَولاه عناية خاصة. وفي لوحته الشهيرة “الليلة المقْمِرة” برز القمر واضحًا يُضيْءُ بحنان على حقل من القمح. ويبدو أَن تلك الليلة كانت مميَّزَةً فترتئذٍ، حتى أَن العلماء الخبراء في هذا الشأْن بالذات تمكَّنوا من تحديد التوقيت الذي كان، حين رسم فان غوخ لوحته، فإِذا هو :الساعة 9:00 ليلة 13 تموز/يوليو 1889.
- أَندو هيروشيج (1797-1858)
يذهب معظم النقاد المكرَّسين إِلى أَن رسامين كثيرين في أُوروبا تأَثروا في لوحاتهم بالرسام الياباني أَندو هيروشيج، أَو نسخوا لوحاته بريشاتهم وقلَّدوها على قماشاتهم البيضاء. فهو – كما يكرِّسه النقَّاد – آخرُ عبقري تشكيلي في مذهب “أُوكيو” الياباني القائم على سرد الحياة اليابانية الريفية وثقافتها وأُسلوبها، وما يتخلَّل تلك الحياة اليومية من ضجر وملَل وحتى يأْس. من هنا شحوبُ القمر في لوحاته حتى وهو بدر كامل في أَزهى لحظاته.
في الجزء الثاني من هذا المقال أُفصِّل – أَكثر وأَوسع – بعضَ ملامحَ هذا الفن الياباني في رسم القمر.
كلام الصُوَر:
- إِدوار مونش: “ليلة قمرية” (1895)
- وليم تورنر: “صيادُون وسط هياج الموج” (1796)
- هنري روسو “الغجَرية النائمة” (1897)
- فان غوخ “القمر فوق حقل القمح” (1889)
- أَندو هيروشيج: “قمر فوق شلال” (1797)