في ملحق جريدة “الأُوريان” الأَدبي الشهريّ (يصدر أَول خميس من الشهر) قرأْتُ مقالًا ممتازَ التوثيق والمضمون عن الكاتب الفرنسي موريس بارِّس وزيارتِه لبنانَ قبل 110 سنوات (1914). نَشَرَه الدكتور هيام ملَّاط الذي عوَّدنا دومًا على هاجسه في كشْف كل حضاريٍّ في لبنان أَو عن لبنان. وهذا الهاجس نعرفه لديه من مؤَلفاته، عربيِّها والفْرنسي، ومقالاته المتواصلة في “الأُوريان” و”النهار”.
مقالُه الجديد عن موريس بارِّس، كَتَبَه في الذكرى المئوية لوفاته (1923-2023)، وهو قام برحلات عدة إِلى المشرق، وتوقَّف في لبنان فترةً من 1914 قبيل اندلاع الحرب الكونية الأُولى، وهي الفترة التي تَهُمُّنا هنا، كما فصَّلها في كتابه “رحلة إِلى بلدان المشرق” الذي صدر في تشرين الثاني 1923 قبل أَيامٍ من وفاة الكاتب. فبعد رحلاته إِلى إِسبانيا واليونان زار بلدان المشرق، وتوقَّف في الإِسكندرية وبيروت وعمشيت وبعلبك وأَفقا وحمص وحلب والفرات وأَنطاكيا. سوى أَن وصفه تمهَّل عند ذكره زيارتَه ضريحَ هنريات رينان في عمشيت والراهبة هندية.
بوصوله إِلى بيروت، قصَد جامعة القديس يوسف التي سمَّاها “منارة روحية في المتوسط الشرقي”، وأَمضى وقتًا ممتعًا مع طلَّابها وأَساتذتها ومكتبتها ومطبعتها وكنيستها، وشعر أَنه في حضرة شبان طامحين إِلى السير في طريق الحرية.
بعد زيارته مدارسَ في بيروت، توجَّه إِلى عمشيت زائرًا ضريح هنريات رينان شقيقة إِرنست رينان الذي سمَّاه “الساحر الخلَّاق”. وفي طريقه إِلى عمشيت مرَّ بـخليج جونيه الذي تذكَّر أَن رينان وصفه بــ”أَجمل مشهد في العالم”، ومرَّ بنهر أَدونيس بُلُوغًا إِلى الضريح في عمشيت، وراحت تتداعى إِلى باله كتابات رينان التي تمزج أَحيانًا بين الواقع والأُسطورة.
بعد عمشيت زار بيت الدين الذي ذكَّره بزوايا من غرناطة وطليطلة في بلاد الأَندلس، وأَصابتْهُ حمى قوية فبقي في دير القمر أَيامًا حتى تعافى. وعاد شمالًا من جديد فزار مغارة أَفقا التي وصفها بـ”الثلم العميق في الجبل وينبوع الحياة والسحر في لبنان”.
في طريقه شمالًا مرَّ بغزير، ومنها امتطى حصانًا إِلى أَفقا فسحرَه منظرها الذي يمزج بين الطبيعي والديني الطقسي، ما يدعو، حسب قوله، إِلى الصمت والتأَمُّل في هذا المكان المقدَّس. وفي طريق عودته إِلى بيروت، صعد إِلى بكركي ملبِّيًا دعوة البطريرك الياس الحويك ورافقه من جونيه إِلى بكركي مدير ناحية جونيه يومها يوسف فريفر. وله وصف جميل عن بكركي التي يمتدُّ شعاعها منذ الجبل صوب البحر البعيد. ووصَفَ البطريرك بأَنه “شيخ حكيم وشَغوف بقضية لبنان”. ثم انتقل شرقًا بالقطار إِلى بعلبك وتوقَّف طويلًا عند سفح الستة الأَعمدة المهيبة التي كانت تحمل عرش جوبيتر إِله الشمس.
وبعودته إِلى باريس وضَع كتابه “رحلة إِلى بلدان المشرق” حتى إِذا صدر في تشرين الثاني 1923 عيَّن له نهار الرابع من كانون الأَول لإِطلاقه، ودعا إِلى الاحتفال أَصدقاءَه وقادريه.
وإِنهم جاؤُوا إِلى الموعد، إِنما لا ليُشاركوه فرحتَه بصدور الكتاب بل ليشتركوا في جنازته لأَنه توفي في ذاك النهار بالذات.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com