كان القمرُ سهرانَ فوقَنا ليلتَها.. وكان الحضورُ في إِنصات كثير، و”دير الزيارة” معانقًا خشعةَ حجارةٍ تاريخيةٍ تنضَح بـزَيت الأَيام المقدَّس، فيتلقَّى صدى الأَوتار، ويَرشُّها أَرَجًا على الباحة الكبرى تحت السروة العالية الشاهدة على نشاط “فيلوكاليَّا” جمعيةً ومعهدًا ورسالة.
و”دير الزيارة”، في عينطورة كسروان، ذو تاريخ بهيّ.. كان خربةً جُمجُميَّة طيلةَ عقود، لا باقٍ منها سوى طيف صبية لبنانية جاءَت من الناصرة ودرسَت فيه ثلاث سنوات (1900-1903).. كان اسمها ماري.. وحين التمعَت كاتبةً غير عادية، راحت تُوقِّع كتاباتها بِاسْم “مي”، فعرفَها العالَم باسمها الأَدبي: “مي زيادة”.
وقُدِّر لهذا الدير أَن تتولى انتشالَه من النسيان راهبةٌ مكرَّسة جعلَتْه تُحفةً معمارية وواحةَ صلاة ونُورَ رسالة.. راهبة غير عادية.. مارانا اسمُهُا.. الأُخت مارانا سعد.. وفيه أَنارت شَمعة الإِيمان وشُعلة “فيلوكاليَّا”.
وما “فيلوكاليَّا”؟ هي تَعني “حُب الجمال”.. وكانت السهرةُ غاردينيا من جمالِ موسيقى تفوح من أَنامل مرسيل خليفة وهو غارقٌ خلْف عينيه يعزف كونشرتو “الجَدَل” الذي أَلَّفه للعود – للعود وحسْب – ويعزفه معه في خشْعة الصلاة توأَمُهُ الأَدائي شربل روحانا بما في روحه من نقاء وفي أَنامله من مهارة نادرة.
لا أَدخل في التقْنية التأْليفية.. هذا ليس في مَداركي المعرفية.. لكنني أَنقلُ ما شهِدْتُهُ ليلتَها (وسيشهدُه كثيرون لاحقًا حيثما سيكون الـ”جدل”).. كنتُ في حضرة عودَين يَــتَــتَــوأَمان عزفًا وبَوحًا وحنينًا وحنانًا وشعلةَ عاصفةٍ ونسائمَ حُب، كأَنه عزْف بالأَعصاب لا بالأَوتار، عزْفٌ يفكِّك النوتات المكتوبة كأَنما لا سؤَال كأَنما لا جواب، ثم يتفلَّت إِلى تقاسيمِ إِيقاعات حرة من خارج الأَسطر، حتى يعود العزْف يَجمعها في نقْرةٍ حنون أَو ضربةِ جنون، كمَوج يثورُ ثم يهدأُ، وفي جميع حالاته يَصَّاعدُ مغمورًا بهالةِ نغماتٍ تراثية شائعة (“يا بنات اسكندرية”، “البنت الشلَبية”، “قدُّك الميَّاس”،…) فَتَتَجَاوَر نغماتٌ معروفة تأْخُذ إِلى النوستالجيا، ونغماتٌ بَكارى تولد من رهافة المؤَلِّف مرسيل خليفة، ثم نَعود إِلى بَوَاح العُود والعَود الآخَر فيَحلَولي الـ”جدَل” ويخضَوضر السَماع.
جدل واحد؟ لا.. بل اثنان: الأَوَّل بين مرسيل خليفة مؤَلِّفًا ومرسيل خليفة عازفًا، والآخَر بين مرسيل خليفة وشربل روحانا.. والعودُ بينهما في أَقصى عنفوانه أَنه لم يعد “آلةً أُخرى” بين آلاتٍ شقيقةٍ في الأُوركسترا، ولا عاد سنَدًا ثانويًّا على المسرح وراءَ الصوت المغنِّي فلا يبرز سوى صوت الغناء وما فيه من تطريب.. هنا: هو العُود وحده على المسرح، بكل هَيْبته وحضوره وأَنغامه وأَوتاره الأُعجوبية، له الـمَساحةُ كلُّها والساحةُ جميعُها.. كان يسمَّى “عود الـمُلُوك” ويذهب بذهابهم، فبات هو “العود الـمَلِك” يذهب الملوك وهو يبقى.
هنا إِبداع المؤَلِّف، كلِّ مؤَلِّف، أَن يضع نصَّه (كتابيًّا أَو موسيقيًّا أَو تشكيليًّا أَو في أَيِّ دُربة من دُرَب الإِبداع) مبتكرًا به حالةً مستقلَّةً في ذاتها، وذاتَ لغةٍ خاصة تجعل لدُربته أَبجديةً جديدة.
هو هذا ما كان خلال سهرة “جدَل”، تلك الليلة القَمَرية في ضيافة “سيدة الزيارة” بدَعوة من “فيلوكاليَّا”: تاريخٌ ساطعٌ لعملٍ فريدٍ قام به مرسيل خليفة بنقْله العودَ من آلة عادية بين الآلات في الأُوركسترا إِلى فضاء خاص به يستحقُّ أَن يؤَلِّف له مبدعٌ خلَّاقٌ كتابةً خاصةً به ويقدِّمه في كونشرتو مستقلٍّ به وحده.. هكذا وقَف مرسيل خليفة المؤَلِّف أَمام مرسيل خليفة العازف، وتلاقَيَا في ثنائيٍّ جناحُهُ الآخرُ شربل روحانا، ليُشكِّل الــ”جدَل”، في التأْليف للعود وحده، نجمًا جديدًا يشعُّ في سماء لبنان الإِبداع ريادةً فنية جديدة من ريادات لبنان اللبناني.
هنري زغيب
email@henrizoghaib.com