عارياً من اللحن والصوت، يأتينا النصُّ الرحبانيُّ بعبقرية الكلْمة الأم التي كم خفَّفَ من وهجها لحنٌ رحبانيٌّ أجملُ منها، وكم حملَ وهجَها ووهجَ اللحن معاً صوتٌ هو مرّةً حوارٌ مسرحيٌ وأخرى ذائقٌ مَحبوب، فكيف به حين يكون صوتَ فيروز!
وإذا كان قدَرُ اللحن أو الصوت أن يكونَ هارباً مع اللحظة بانسيابِ الأثير عبر الإذاعةِ أو الشاشة أو الكاسيت، صوتِيِّها والْمرئيّ، فقدَرُ النص، كي يبقى، أنْ تَضُمَّه دفَّتان.
وإذا كان قدَرُ الْمسرحيّ أو الْملحِّن أو الْمؤدي أن يظلّ نتاجُه ضحية اللحظة الْهاربة، لا تركيزَ له، ولا عودةَ إليه، ولا تَبَحُّرَ فيه إلا استعادياً بتجميدِ تلك اللحظةِ الْهاربة، فيا سعدَ الْمؤلف أنْ يُمكنَ تَجميدُ نصِّه مطبوعاً في كتاب، يعاد إليه للتبحر والدراسة وقراءة متأنية غير هاربة مع الأثير. هكذا، مثلاً، غاب في الزمان، أداءً سمعياً وبصرياً ومشهدياً، مسرح سوفوكل وموليير وشكسبير، ولم يبقَ لنا إلاَّ وحده النصُّ حاملاً عبقريةَ الكلْمةِ الأم. هذا النصُّ، دون اللحن والصوت، جَسَّدَهُ عاصي ومنصور جَمالياً خالداً، شِعراً ومسرحاً، قبل أَلبساه اللحنَ الرحبانيَّ الْجميل، وقبل أَعطياه الى صوتٍ جَميلٍ حَملَه حتى أطراف الدنيا.
هنا نَحن، إذاً، أمام النصِّ الرحباني عارياً من اللحن والصوت، مطروحاً أمام القراء والدارسين والباحثين والنقاد، يَغوصُون فيه على درٍّ وزمرُّدٍ وياقوتٍ من شاعريةِ الكلمة وبراءةِ الْحوار وذكاءِ النسيج الْمسرحي وترابُط الْمشهد الدرامي وبنائيةِ الْحبكة التأليفية، وهذا كلُّه لَم يكن مُمكناً تَوَفُّرُهُ لو بقي النصُّ لابساً لَحناً، أو طائراً على جناحي صوتٍ يتماوج عبر الأثير.
هذا النصّ يضافُ الى الأدب اللبناني أدباً باتَ كلاسيكياً، لأنه تكرَّس وسْع الذاكرة الشعبية، في جيل من سبقنا، وجيلنا، وجيل من سيأتي. تكرَّس مُرَدَّداً في لوازم لَحن، أو مَحفوظاً من أوتار صوت، لكنه بعد اليوم، ولكل جيل آتٍ، سيبقى مرجِعاً في مكتبة، خالداً على الأيام والأجيال. فمما خدم الْمسرحَ الرحباني في عصرنا، وجعله كلاسيكياً: خروجُه من جُمهور الإطار الْمسرحي الضيق الى جُمهور الْمهرجانات الكبرى والْمسارح الكبرى (ما أعطاه دفعاً انتشارياً واسعاً)، كما خدمَه ذيوعُ أغنياتٍ فيه وحواراتٍ ظلَّت تُذاع وتنتشر (صوتاً وصورةً) بعد العرض الْمسرحي. على أن رأْسَ ما خدم الْمسرحَ الرحباني في عصرنا: صدورُ معظمِه بأداء فيروز الآسر، موهبةً استثنائيةً وصوتاً استثنائياً وحضوراً متفرداً غيرَ عادي، فتضافر حضورُها الْمسرحيُّ القويُّ مع صوتِها غيرِ العادي ليجعلا منها رمزاً لبنانياً عالياً، وأكثر: رمزَ لبنانَ الْحضاري في العالم، جسَّدَ النصَّ الرحبانيَّ الْجميل واللحنَ الرحبانيَّ الأجْمل، وحَمَل هذين النصَّ واللحنَ، بأجْمل الأناقات، الى آخر الدنيا، حتى بات للعمل الرحباني عنوانان: اسْمه وصوت فيروز.
ولرُبَّ قائل إن العصر اليوم لم يعد عصر كتاب، بعدما تعولَم العصر. لا تَغُرَّنَّنا صفحاتُ بريدٍ إلكتروني ولا عناوينُ مواقعَ إلكترونية ولا تتالياتُ نصٍ على شاشةِ إنترنت. وحدَهُ يبقى، ليعادَ إليه، نصٌّ ندوِّنه على الورق، أو نطبعه على الورق، أو نَحفظه على الورق، منسرحاً أوراقاً أو مضبوطاً بين دفتين.
النصّ الرحباني يؤرّخ وجهَنا وصوتَنا وتراثَنا، ويَحفر في الزمان حقبةً ذهبيةً من تاريْخنا الإبداعي، عبر قصائدَ مكتوبةٍ بأعلى الشاعرية، ومشاهدَ منسوجةٍ بأقصى الْحذاقة في الْحوار، وشخصياتٍ وُلِدت ذات يوم على خشبة رحبانية، لكنها دخلت في التقليد الأدبي والْموروث الشعبي أمثلةً ونَماذجَ إنسانيةً، وكاراكتيرات يستعاض بِها عن كل تشبيه. فمنذ “بيّاع الخواتم” لا يقال: “هذا من صنع مَجهول” بل يقال: “فتشوا عن راجح”، ومنذ “لولو” لا يقال: “هذه امرأة مزاجية” بل يقال: “هذه لولو السويعاتية”، ومنذ “الليل والقنديل” لا يقال: “هذا شرير” بل يقال: “هذا هَوْلو”، ومنذ “الشخص” لا يقال: “هذا صنم أو خيال صحراء” بل يقال “هذا هو الشخص”، ومنذ “بياع الخواتم” أصبحت شخصية الشاويش ملازمة كلَّ إلْماحٍ الى السلطة الرسْمية، ومنذ “جبال الصوان” أصبحت “غربة” رمز كل تَحريرٍ ومقاومةٍ تَموت على البوابة كي تسلم الأرض، ومنذ “ناطورة الْمفاتيح” أصبحت “زاد الخير” رمز كسْر شوكة الْحاكم الظالِم وتَحويلِهِ رموز الْمُلك ألعاباً يتسلى بِها الأطفال. ومنذ الْمسرح الرحباني، سرَت في الناس أقوالٌ باتت رديفةً، أو بديلةً، لكل تشبيه، فيقال “الولاد بدُّن يكبرو ما فيهُن ينطرو تَ يصير فيه حكومِه… كاسَك خيي برهوم”، ويقال “كتار؟ قلال؟ نكون. شو هَمّ. منكمِّل باللي بقْيو”، ويقال “إذا بقي حجار منشوف”، ويقال “الانتظار خلَق الْمحطه وشوق السفر جاب التران”، ويقال “إذا كبْرِتْ أحزاني ونسيني العمر التاني إنتَ اللي ما بتنساني” أو (كما قال سعيد عقل عام 1962) “كل ضيعه بينها وبين الدني جسر القمر، وطالْما فيها قلب بيْشدّ قلب، مهما تعرّض للخطر ما بْيِنْهِدِم جسر القمر”… ولن أُكمل التعداد، ففي كل نصٍّ مسرحيٍّ رحبانِيٍّ كاراكتيرات وشخصيات وأقوال سرَت وتسري في الناس أمثلةً ونَماذج.
ذلك أنّ في مقاربة الْمسرح الرحبانِيّ دخولاً الى نصٍّ (حواريٍّ وغنائيٍّ) مُحْكَمِ الْحَبْكة والتقسيم والشخصيات والتفاصيل، على ما يبدو فيه من عفويةٍ في النسيج الكتابِي. وهو ذو رسالةٍ إنسانيةٍ وحضارية جَعَلَتْهُ ضالعاً في ضمير الناس ومشاعرِهم، يتلقّفونه على أنه هُمْ، أو على أنَّهم يتمثّلون فيه أصدقَ تَمثيل.
من هنا ما نشهَدُهُ، كلَّ عام، من تقديْمِ فِرَقٍ هاويةٍ أو مدرسيةٍ أو شبْهِ مُحترفةٍ، أعمالاً مسرحيةً رحبانِيّةً لِجمهور القرى والْمهرجانات والْمدارس والضواحي، حتى ليغدو النصُّ الرحبانِيّ، مع مرور الزمن، تراثاً كلاسيكياً يدخل من الباب الواسع (ليبقى أبداً) في ذاكرة أدبنا اللبنانِيّ الكلاسيكي.
ومتى قُلناه كلاسيكياً، قلناه يعادُ ويستعادُ، متوغِّلاً في الزمن، متوهِّجاً بِحضوره، نَضِراً بِنَصِّه وألْحانه وأغنِياته، ضالعاً في الذاكرة الشعبية اللبنانِيّة بشخصياتٍ فيه باتت رموزاً شاعَت، يشار إليها وبِها يُستَشْهَد.
وذلك أنّ النصَّ الْمسرحيَّ الرحبانِيّ (بِحواراته وكلمات أغنِياته وألْحانه ونسيجه الكتابِي) انطلَقَ من قاعدةٍ ذات خافيّةٍ ثابتةٍ، اختزَنَها الأخوان رحبانِي من إرثٍ عريقٍ (شعبي وفنِيّ وجَمالي) غَرَفا منه فلَم يُكَرِّراه، بل طوَّراه الى الأفضل، الى الأجْمل، الى الأنضر، ليبقى من جيلٍ الى جيلٍ زادَ أجيالِنا الطالعةِ الْمقبلة.
عبثاً نبحثُ، في النصِّ الْمسرحيِّ الرحبانِيّ، عن حكايةٍ وراءَهُ أو دافعٍ أو وازعٍ لكتابة هذا النص أو ذاك، لإيْجاد هذه الْحبْكة أو تلك، للتَّطَرُّقِ الى هذا الْموضوع أو ذيّاك. فالنصُّ الرحبانِيّ (حين ليس نصاً تاريْخياً مَحكوماً بوقائع وثوابت) مرَصَّعٌ دائِماً بالْخيال. ولأنّ الواقع يلغي الْخيال ويُمَزِّق شالَ تَشَرْنُقِهِ خلف أسطورة أو حكاية أو تَخَيُّل روائي خلاّق، فلْيَظَلَّ غُموضُ التأْليف سراً بين عاصي ومنصور، لا يُحاوِلَنَّ أحدٌ أن يُقَشِّرَه، ولْيبْقَ سراً لا يَفْتَضُّه مُحاول، وليستمرَّ الْجمالُ الْمحيط بظروف التأْليف شالاً يَهْنَأُ خلفَهُ السِرُّ ويظلُّ سِراً.
بين متابعة النصِّ الْمسرحيِّ الرحبانِيّ على الْخشبة (ليغيبَ تباعاً في كثافة السنوات)، وقراءته المتأنية مطبوعاً ليبقى مرجعاً يُعاد إليه، يقف المتلقُّون اثنَين: قارئٌ شاهَدَ العمل على الْخشبة (ويسمعه تسجيلاً صوتياً)، أو يقرأُهُ بِنوستالْجيا جَميلة فيُتابع مَشَاهِدَه بِعَينَيه (قارئاً) وبِذاكرته (عائداً حنِيّنِيّاً الى تلك الأمسيات)، وقارئٌ لَم يعرف العمل على الْخشبة فيواجهُه نصاً مسرحياً كما يواجه أيَّ نص مسرحي كلاسيكي عالَمي مطبوع.
إنّ الْحياة، فيما تغزل الْحاضر، تَخلق الْحنِين الى الْماضي. والْحنين اليوم يُجَرّد الْماضي من متاعبه التي كانت، فيعود إليه الإنسان في لَحظات ضعفٍ وانكسار يفتح زوادة الذكريات حنيناً إليها يستمد منها قوةً لِحاضره (أَيَكونُ في ذلك استعجالُ الرحيل الى الغياب بتدمير الذات رجوعاً الى الْمكان الأول، الى رحِم الْحياة؟). هكذا الْمسرح الرحبانِيّ يأْخُذنا الى حنينٍ فيه، ولو ليس لنا، فنتداخل فيه حتى يغدو حنينُهُ حنينَنا، وَجَوُّهُ جَوَّنا، ومناخُه (النفسيُّ والأخلاقيُّ والروحيُّ و… حتى السياسيُّ) مناخَنا نَحن في وعينا أو اللاوعي.
من هنا سذاجةُ التفكير بأنّ النصَّ الرحبانِيّ خَلَقَ لنا “وطناً من الوهم والْخيال، انْهار عند العاصفة الأولى”. والقولُ إن الأخوين رحبانِي “أَوْهَما الناسَ بوطنٍ خيالِيٍّ غيرِ موجود”، قولٌ قاصر جاهل، لأن الوطن الذي انْهار هو لبنان السياسيُّ الكرتونِيُّ الكرنفاليُّ الذي لَم ينفكّ (سياسياً) يَنهار ويَسقط ويَقوم ويَتحالَف ويَنفصل ويَتّحد ويَتّسع ويَضيق، فيما لبنانُ الشعبُ لا يزال هو هو: الْخلاَّقَ الْمبدِعَ مُصَدِّرَ الْمبدعين اللبنانيين الى العالَم. وهو هذا لبنان الرحبانِيّ الباقي: لبنانُ الشعب الطيِّب النقيّ الْخلاّق الذي يتخاصم على شؤونٍ سرعانَ ما يَعود يأتلف عليها وينضمُّ قلباً واحداً، وعاطفة واحدة، في لبنان واحد.
هل الْمسرحُ الرحبانِيّ نصٌّ سياسي؟ عبثاً يُحاول البعضُ إيْجادَ إسقاطاتٍ آنِيّةٍ على الشخصيات الْمسرحية الرحبانِيّة، فنسيج النص أَبْعَدُ وأبقى من أيةِ إسقاطاتٍ قد تصحُّ اليومَ على هذا أو ذاك من أشخاصٍ في الوطن، لأن الشخصية في الْمسرح الرحبانِيّ إنسانِيّةٌ عامةٌ شاملة، وهي أعلى من تقزيْمِها في تشبيهِها بسياسيٍّ ما، أو حاكِمٍ ما، في فترةٍ ما، من عمر الوطن. وهذا ما يَجعل الْمسرح الرحبانِيّ شُمولياً تَصُحُّ شخصياتُهُ وأحداثُهُ لكلِّ زمانٍ ومكان.
لا يُحاوِلَنَّ أحدٌ إعطاءَ الْمسرح الرحبانِي تسمياتٍ ليست له (مغناة، أوبريت، …). إنه بتركيبته التأْليفية “مسرح غنائي”. ومشاهِدُه (كوميديةً، وطنِيّةً، دراميةً، صُداميةً، عاطفيةً، غنائيةً، حواريةً تَمثيلية،…) تَجْنَح الى القِصَر: لا يكاد موضوعُها يتّضح حتى ينتقلَ النصُّ الى الْمشهد التالي. وهذا الـلاتطويل في الْمَشاهد خَلَقَ للنص الرحبانِيّ إيقاعاً سريعاً (ولو متأَنِّياًً) في تشكيليةِ تقطيعِه الدرامي، تَمُر فيه الرسالةُ واضحة وتنتقل الى الْمشهد التالي.
والنصُّ الْمسرحيُّ الرحبانِيّ يَتَّسِم بالْمسحة الشاعرية (ولعلَّ في هذه فرادتَه الْخالدة) فتغدو شِعريَّةُ النصِّ أساساً للحوار غالباً ما يتّشِحُ بِها العمل كلُّه.
كما يَتَّسِم النصُّ الْمسرحيُّ الرحبانِيّ بالغنى في الرؤية البصرية، كأَنّما هو (ومنذ مطالعه في البواكير) اعتمَد تقنِيّة “خيال الظل” (أو “الظلال الصينية”) حتى قبل أن تبلُغَنا استخداماتُها. ومصدر هذا الغنى البَصَري أنّ الْمشاهد الْمسرحية الرحبانِيّة زاخِرةٌ بالتجربة الشخصية لعاصي ومنصور، في طفولَتِهما، في يَفاعتِهِما، في شبابِهما، وفي تَجربَتِهِما الشخصية (فرديَّةً وثنائية) من مُحيطِهِما العائلي والاجتماعي والفَنِّيّ، حتى ليبدو مسرحُهُما، في كثيرٍ من تفاصيلِه أو مشاهدِه أو شخصياتِه، امتداداً نوستالْجيّاً لتفاصيلَ ومشاهدَ وشخصياتٍ من سيرتِهما الذاتية، منسوجةٍ في قالبٍ ذي تفكير كونِيّ يتعدّى الْحادثةَ الآنِيّة الى حَدَث إنسانِيّ، ويتخطى الشخصية (الْمستوحى منها) الى شخصيةٍ إنسانِيّةٍ شاملة.
خَدَمَ الْمسرحَ الرحبانِيَّ خُروجُه من جُمهور الإطار الضيّق (الْمحصور في قريةٍ أو ضيعةٍ أو ضاحية، كما كانت مطالِعُه الأُولى غيرُ الاحترافية) وتقديْمُهُ على مسارح كبرى (مهرجانات بعلبك، مهرجانات الأرْز، معرض دمشق الدولي، …) ما أعطاه دفعاً انتشارياً (وتالياً إعلامياً فشعبياً) أوصلَه أسرعَ الى جُمهورٍ ثقيفٍ واسِعٍ (مُشاهِداً) وأَوسعَ (مستمِعاً في ما بعد الى الأعمال في أسطوانات).
كما خدَمَ الْمسرحَ الرحبانِيَّ ذيوعُ أغنِياتٍ فيه وحواراتٍ غنائية أخذَت بعد العرض الْمسرحي تُذاع منفصلة فراجَت وشاعَت وتداولَتْها الأَسْماعُ لاحقاً فَأَمَّنَت للعَمَل مُثولاً مستمراً في أذهان الناس (ولو لَم يتركّز نصاً كاملاً في ذاكرتِهم)، وعودةً إليه متفاوتةً أو متواصلةً تَجعله باقياً في الذاكرة الشعبية. ذلك أن النصَّ الرحبانِيَّ الْجميلَ لبِسَ لَحناً جَميلاً رسَّخَهُ في الاسترجاع السمْعي، فإذا الناسُ يردِّدون النص (أغنِيّةً أو حواراً غنائياً) يَحملهم اللحن الى تَذَكُّرِهِ فيمر النص من خلال اللحن ويتركز في الذاكرة.
على أنّ رأْسَ ما خدَمَ الْمسرحَ الرحبانِيَّ صدورُ معظمِه بِأداء فيروز الآسر، موهبةً استثنائيةً وصوتاً استثنائياً وحضوراً متفرِّداً غيرَ عادي. وإذا الناس أحبُّوها صوتاً موجِعاً من جَمال – منذ مطالعِه الإذاعيةِ الصوتيةِ واستطراداً سَمْعياً في الوقفات الْمسرحية الأُولى – فَهُمْ أحبّوها، أكْثَر، موهبةً تَمثيليةً أَخّاذةً في الأعمال اللاحقة، يصعقُهم حضورُها أياً يكن الدور (من بياعة البندورة الى بنت الدكان الى الْملكة زنوبيا الى ملكة بترا) فتضافرَ الْحضورُ الْمسرحيُّ القويُّ مع صوتِها غيرِ العادي ليجعلا منها رمزاً لبنانِيّاً عالياً، وأكثر: رمزَ لبنانَ الْحضاريِّ اليوم في العالَم. وهكذا، عَبَرَ العملُ الرحبانِيُّ من النص الرحبانِيّ الْجميل، الى اللحن الرحبانِيّ الأجْمل، الى الصوتِ الْخارقِ الذي حَمَلَ ذينك النصّ واللحن، بأجْمل الأناقات، الى آخر الدنيا.
هكذا سطعَت شُمولية النصِّ الْمسرحيِّ الرحبانِيّ، غيرِ الْمنحصر تَحديداً في زمان تقديْمه، وغيرِ الْمنتهي فنِيّاً في مكانِ تقديْمه، وانبهر المتلقون بجَمال النصِّ الرحبانِيّ، شِعراً (لأغنِيّةٍ أو لِسِياق)، وحِواراً (مونولوغاً أو كَورَساً)، وتَماسُكاً مَشهدياً، وشَخصياتٍ خالدةً، ونسيجاً درامياً مسرحياً.
بكل هذا، يبقى النصُّ الرحباني متّصلاً بالأجيال المتتالية تَعودُ إليه قراءةً وتَمثيلاً ودراسةً فنِيّةً وأدبيةً وغَرْفاً من قِيَمِه الْجمالية والإنسانِيّة والوطنِيّة، فلا يبقى مَحصوراً في الشريط السمعي أو البصري ويذهب جَمالُ النص مع زوال ثوانِي الاستماع أو الْمشاهدة،
وهكذا يبقى النصُّ الرحبانِيُّ (عارياً من اللحن والصوت) فيُسْتَعادَ (لِذاتِهِ كَنَصٍّ مكتوبٍ) تراثاً أدبياً وشعرياً لبنانِيّاً كلاسيكياً، يحفظ ذاكرةً لبنانِيّةً ناصعة نَحفظُها ونورِثُها كأنصع ما يكون الإِرثُ الْمُهدى الى الأبناء والأحفاد،
وسيبقى النص الرحباني شاهداً حياً على الذاكرة الْجمالية في التراث اللبناني، علامةً على لبنان الْحقيقيّ، لبنان القِيَم والإبداع، لبنان الْحضارة والتاريْخ والفكر والتراث العالي الذي ما عادت مُمْكِنَةً دراستُهُ، بعد اليوم، من دون الْمرور بنتاجِ الوطن الذي باتَ (في هذا الفنِّ الشعريِّ والْموسيقيِّ بالذات) موسوماً بـ”لبنان الرحبانِيّ”.