هنري زغيب
حين يضحك، كانت خلف ضحكته مهابةُ رئيس التحرير الذي يحترمه الملوك ويهابه الرؤَساء. وحين يزمجر غاضبًا، كانت تبقى خلف زمجرته لمسةُ حنان تُعيده إِلى هدوئه. تلك، في أَحد ملامحها المركَّبة، شخصية سليم اللوزي (1922-1980).
يوم انتسبتُ إِلى “الحوادث” (نيسان/أَپريل 1976) كانت المجلة محطةً زمنية. كنتُ أَسمع الكثيرين يتداولون: “غدًا الجمعة. غدًا موعد “الحوادث”…”. كان يوم الجمعة تذكيرًا يعني للناس صدور “الحوادث”. وفي جلسةٍ ذاتَ يومٍ سمعتُ أَحد الحاضرين يَذكُر أَمرًا جرى له قبل أَسابيع ثم استدرك متذكِّرًا: “كان ذلك يوم صدور “الحوادث”. إِذًا كان يوم الجمعة”. إِلى هذا الحدّ كانت “الحوادث” موعدًا للناس ينتظرونه كلَّ أُسبوع. وغالبًا ما كان العدد ينفد من المكتبة في اليوم ذاته (الجمعة)، فيطالب صاحبها بمزيد من الأَعداد، وأَحيانًا لم تكُن إِدارة التوزيع قادرةً على تلبية المكتبات.
وراء تلك الظاهرة، كان رجلٌ في قلب العاصفة. رجلٌ عاصفة اسمه سليم اللوزي.
ماردُ القامة المربوعة
في مطلع 1976، وكنتُ مسؤُول الإِعلام والعلاقات العامة في “المركز التربوي للبحوث والإِنماء”، اتصل بي صحافي من “الحوادث” يطلُب موعدًا لمقابلة رئيس المركز الدكتور وديع حداد. عيّنْتُ له الموعد بعد مراجعة الرئيس، حتى إِذا جاء للموعد وأَجرى حديثَه، مرّ بي شاكرًا وسائلًا: “لِمَ لا تنضَمُّ معنا إِلى أُسرة التحرير”؟ أَغراني العرض، وكنتُ يومها تركتُ “الصياد” وبقيتُ أَكتب مقالات متفرقة غيرَ دورية لـ”النهار”، أَمُدُّها للصديق شوقي أَبي شقرا فينشرها على غير انتظام. ثم أَردف الصحافي: “إِذا كان الأَمر يهمُّك، أُبادلُك سرعة أَخْذِكَ موعدي بموعدٍ لك سريعٍ مع رئيس التحرير”.
وهكذا كان، وتَحَدَّد الموعد. ذاك الصحافي كان الصديق كابي طبراني (اليوم ناشر “أَسواق العرب” من لندن) وذاك الـ”رئيس التحرير” كان سليم اللوزي.
دخلتُ عليه وأَنا في تهيُّب مَن يلتقي رجلًا كان يومها حديثَ البلد، وموضعَ ثقة الناس وإِعجابهم لجرأَته التي كم تَهيّبَها حُكَّامٌ ومسؤُولون في كل العالم العربي.كان منهمكًا بين أَوراقه على مكتبه، ويجيب عن رنين الهاتف مراتٍ في الدقيقة الواحدة.
- جيِّد. لكَ مقالاتٌ لفتَتْني في “الصياد” و”النهار”. أَنتَ معنا بدءًا من الأُسبوع المقبل، تتولَّى القسم الثقافي.
في الأُسبوع التالي انضممتُ إِلى أُسرة “الحوادث” وحضرتُ أَول اجتماع تحرير. دخل سليم اللوزي ماردًا رغم قامته المربوعة.
كان صوتُه ماردًا ورأْيُه ماردًا وقرارُه ماردًا. وأَذكُر يومها قولَه لمحرري السياسة:
- جيئُوني بـ”سْكُوپ” (سبَق صحافي) واحد كل أُسبوع وأَكفل لكم استمرار “الحوادث” بهذه الانطلاقة الناشبة.
كان يسأَل كلّ محرّر عما لديه للعدد التالي. وكلما أَجاب محرر عن موضوعه أَو مقابلته، عاجَلَه بمقدمة للموضوع أَو بفكرة عنه أَو بمعلومة عمَّن سيُجري معه المحررُ الحوار.
شو عنّا لــ”خلْف”؟
مذهلًا موسوعيًا كان في اطِّلاعه على خفايا وأَسرار ومعلومات تُغْني مقابلةَ المحرر أَو متنَ الموضوع أَو مقاربةَ الحدث، حتى ليمكن القول إِن معظم مقالات القسم السياسي أَو مواضيعه أَو مقابلاته كانت تأْخذ مادَّتها الأُولى من سليم اللوزي.
ينتهي البحث في القسم السياسي.
- وشو فيه عنَّا لَـخَلْف؟
استفسرتُ هامسًا ففهمتُ أَنَّ الـ”خَلْف” في قاموسه يعني القسم غير السياسي. وحتى في هذا القسم كان “يتدخَّل” ولو جزئيًّا، مستفيضًا برأْيٍ أَو معلومةٍ أَو حكاية، خصوصًا في المواضيع الفنية، وهو بدأَ حياته الصحافية محررًا فنيًا، وتاليًا يعرف الكثير من أَخبار “النُجوم”.
أُتركوه يكتب كما يُريد
في 13 أَيار/مايو 1976 صدر مقالي الأَول لـ”الحوادث” في زاوية “نقطة على الحرف” بعنوان “ثقافة لا إِلى التزام”، دعوتُ فيه إِلى تنزيه الثقافة عن الالتزامات الإِيديولوجية والحزبية والسياسية، وإِلى التعاطي معها مادةً تثقيفية في حدِّها الأَعلى، تركيزًا على الحضور اللبناني لأَعلام تلك الثقافة. وأَعلنتُ عن سلسلةٍ سأُهيِّئُها لمبدعين لبنانيين في كل حقل، استفتاءً إِيَّاهم عما يفعلونه في تلك الحقبة الصعبة من “حرب السنتَين”.
في الأُسبوع التالي، خلال اجتماع التحرير قام زميل يعترض على “تَوَجُّهي اللبناني” في إِطلالتي على قرَّاء “الحوادث” التي لها بُعد عربيّ. وقبل أَن أُجيب مدافعًا عن “تَوَجُّهي” قطَع سليم اللوزي حديث الزميل “الغَيور” على الإِيديولوجيا، وزَجَرَه:
– أُتركوه يكتب كما يُريد. “الحوادث” ملتقى جميع التيارات. إِذا أَخطأَ نحاسبه وإِذا نجح نهنِّئُه. أُتركوه. هذا قلم جديد نحتاج في “الحوادث” نضارته وشبابه. نعطيه فرصةَ أَن يُظهر ما لديه.
بعد بضعة أَعداد أُسبوعية رنَّ الهاتف في بيتي ذات مساء لتقول لي عاملةُ الهاتف في “الحوادث”:
- الأُستاذ يريد أَن يكلِّمك (و”الأُستاذ” في عُرف “الحوادث” ليس سوى سليم اللوزي).
جاءَني صوتُه حازمًا خلتُ وراءَه لومًا على “تَوَجُّهي اللبناني”:
- أُتابع مقالاتك وأُحبُّها. تابِعْ. اليوم تشكَّلَت حكومة جديدة في سوريا وأُسنِدت وزارةُ الثقافة إِلى سيِّدة. غدًا صباحًا
تذهب إِلى دمشق. يجب أَن تكون “الحوادث” أَوَّل مَن يقابلها. مُرَّ على المجلة غدًا يعطوك التفاصيل.
أَفخم فندق لمندوب “الحوادث”
في اليوم التالي مررتُ بالإِدارة فإِذا لي وديعتان: أُولى ظرفٌ يحوي مبلغًا “مُبَحبَحًا” لرحلتي إِلى دمشق، والأُخرى توصية شفهية من “الأُستاذ”: “تحجز في أَفخم فندق، وتتناول الطعام في أَفخم مطعم. مندوب “الحوادث” مكَرَّمٌ أَينما حَلّ”.
ظُهر اليوم التالي كنتُ في دمشق. ولأَنني من “الحوادث” تَحدَّد موعدي عصر النهار نفسه مع وزيرة الثقافة الدكتورة نجاح العطار، فكنتُ فعلًا أَول من يُجري حديثًا معها لدى تعيينها وزيرةً للثقافة.
الأَمر ذاته بعد أَسابيع: مؤْتمر وزراء الثقافة العرب في عمَّان. حُجِزَتْ لي غرفةٌ في فندق المؤْتمر بينما صحافيون آخَرون حُجِزَ لهم في فندق قريب. كلُّ ذلك لأَنني مندوب “الحوادث”. وبهذه الصفة تمكَّنتُ يومها من مقابلة وزير الثقافة الأُردني عدنان أَبو عودة ووزراء عربًا آخرين كانوا، حين أَطلب موعدًا منهم كمندوب “الحوادث” يبادرون إِلى تعيين موعدي، لا كُرمى لي طبعًا بل لاهتمامهم بصُدور حوار معهم على صفحات “الحوادث”، ويوصونني في آخر الحوار أَن أُبلِّغ الأُستاذ سليم تحيتهم الشخصية واحترامهم.
لكنَّ قدرًا قاسيًا كان ينتظر “الأُستاذ”، أَرويه في الجزء الثاني من هذا المقال (الجمعة المقبل).
كلام الصُوَر
– سليم اللوزي بين عبدالوهاب ونبيل خوري ورجا الشورجي (الصورة الرئيسة)
- صَوتهُ كما قَلمُه: على حد السيف
- وراء ابتسامته زمجرةٌ حاضرة
- غلاف “الحوادث” حدَث الأُسبوع
- “الحوادث” صوتُ المقهورين