هنري زغيب
كأَنه كان والمئة على موعد. سوى أَنها خانتْه فخطفتْه أَو خافت أَن تُخاصرَه فيخطفَها.
نقُولا زيادة (2007 -2006)، في ذاكرة التاريخ الحديث، تاريخٌ حيٌّ في موسوعة حيَّة. فلا أَقلَّ من أَن يَسِمَهُ زملاؤُه في هذا الميدان “شيخ المؤَرخين العرب”.
وهو لم يكن شيخَهم، بقدْرما كان، حتى عند أَطراف أَيامه الأَخيرة، “شابَّ” شيوخهم.
جمعَنَا إِليه إِعجابٌ بنهَمِه العالي إِلى الحياة، نَهَمٍ هو بين فلسفة الحياة وإِﭘـيقوريّةِ عيشِها حتى النقطة الأَخيرة في كأْسها.
وجمعَتْنا إِليه بساطةٌ في المقاربة الحَنون صداقةً وفيّةً تقديريةً تعرف كيف تَقرأُ في الآخَر الثنايا الطيّبات، ولا تُشيحُ عن توعيةٍ حين هذهِ من خُلاصات الصداقة.
وجمعَنَا إِليه اطِّلابٌ لا يكِلّ، هَنَّا قراءةٌ تَغرُف من كلِّ مُتاحٍ وُصولًا إِلى كل صلاح، وهَنَّا كتابةٌ هي الخلاصة المقطوفة من كل ردحٍ في العمر بناه صَرحًا بعد صرح، حتى باتت لنا منه اليوم موسوعةٌ هي للتاريخ عنوان، وللتأْريخ سلطان، ولكتابة التاريخ ميزان.
وجمعتْنا إِليه طرافةُ روحٍ على التقاط هنيهات الدُّعابة، تتعالى بنكهتها الجَلود على التعب الجَحود. فهو في حالتَيه الصلبُ القادر على الجمع بين الأَكاديمي الأَريب والدمِث القريب، فالجِلسة إِليه متعةٌ للقلب والعقل والروح، مثالثةٌ في العنُوِّ لديه من دون احتسابِ وقتٍ يمرّ مهدورًا على انسفاح الثرثرة.
مسارَرَة الحياة، تقبيل الحسناوات
وجمَعَنا إِليه إِيمانٌ بالحياة قويٌّ، كما لو انه تعاهدَ والحياةَ على مسارَرَة حميمة، لا هو يَغدُرها بفجاءَة العُقوق السادر، ولا هي تَغدُره بفجاءة الموت الهادر. ولا وضوحَ هنا إِن كان هو يُحاذرها، أَو هي مَن كانت تُحاذره خوف جَرح شيخوخته المباركة. مع أَنه لم يكن يُهادن.
ذات يومٍ، في إِحدى السهرات لديه، وما كان أَكثرَها وأَحلاها مع شلةِ أَوفياء وأَصدقاء، سأَلتُهُ عن سرِّ احتفاظه بهذه العافية رغم السن المتقدمة، فانفرَجَت شفتاه عن تلك البسمة المحبَّبة تحت ثلج شعره الهاشل، وأَجاب بكل هدوء: “السر؟ بسيط: أَشرب الويسكي كلَّ يوم، أُدخِّن الغليون كلَّ يوم، أَسهَر كلَّ يوم، أَكتُب كلَّ يوم، أَقرأُ كل يوم، آكُل ما أَشتهي كلَّ يوم، لا ريجيم، لا أَمشي، لا أَقوم بأَيّ حركات رياضية، آنَسُ إِلى النساء الجميلات أَبوسهُنَّ مستقبِلًا ومودِّعًا، لي خطيباتٌ يستفْقِدْنَني دوريًا، ولا أَشعر أَنني هرِمتُ أَو أَتقدَّم في السن”.
هكذا بدا أَنه يمشي عكس السير في تَحدِّيه الحياة، بينما سواه في الخمسين يُهَمْهِمُ مُـحْـبَطًا يائسًا: “لم يبقَ من العمر أَكثر مما مضى”.
وجمعتْنا إِليه، بين كثير ما جمَعَنا به، ذاكرةٌ ذاتُ صفاءٍ عجيب: أَرقامًا وتواريخَ وأَحداثًا وتفاصيل، كأَنّ أَمسه الطويل كتابٌ على مدِّ يده يطالُهُ لحظةَ يَشاء ويقطفُ منه معلومةً وُثقى لا إِلى ارتجاج.
السر في عمل منتج لا يكلّ
إِذا كان أُسطوريًا ما قرأْناه عن العلماء، فهو العالِـم.
وإِذا كان لافتًا ما قرأْناه عن فِلذاتٍ في الدهر استثنائيات، فهو الفِلذة الاستثنائية.
وإِذا كان أَبعدَ من المنطق ما قرأْناه عن سرّ الكبار، فهو هو ذاك السر: يكتُب يكتُب، يَقرأُ يَقرأ، يحادثُ يحادث، وفي كلِّها جميعًا حُبُّ الحياة، على ثقةٍ بالغد هَيمى بتحدّي العجز حينَ الجسَد يؤَذِّن بالرحيل.
ولشدَّة ما كانت المئةُ سنةٍ طبيعيةً في تفكيره، خافَتْ هذه أَن تُخاصِرَه فيصطفيها ولا يعودَ لديه استثناءٌ حتى ببلوغها، فخانتْه وانسحبَت قبْل يبلُغُها كي تظلَّ عنده نقطةٌ تَمنَّاها، وكي لا يظلَّ عندنا ما نقوله عن متمَنَّيَاتٍ له قطفَها جميعَها، فضجِر من بلوغِها جميعًا ورحَل بعدما ضجرَ من النَوال، بل تبقى لنا غصّةُ أَنه لم ينل كلَّ ما تمنى، فنأْسف للمئة ولا نأْسف عليه، هو الذي كم سهرْنا لديه على أَمل أَن نُطفئَ معه الشمعةَ المئة ويكونَ عريسَ الاحتفال، لكنها سرقَتْهُ منا فاحتفَلْنا بها وأَخبرْناه عنها غائبًا عنَّا، عوض أَن يحتفلَ هو بها ويخبرَنا عنها.
على بعد خَطوتين من المئة
وإِذا كان أَجملُ الخريف وريقاتٍ تهرّ عن أَفنانها ليكونَ خريف، فغصةُ الطبيعة أَن تبقى على غُصن ورقةٌ وحيدةٌ تَعصى ولا تهرّ، فتذبل على الأَرض وريقاتٌ سقطَت وجرَفَتْها مياه المطر، وتظلّ في البال ورقةٌ وحيدةٌ يتعاقب عليها فصلٌ بعد فصل، وتبقى هي حديث الفصول.
هكذا هو باقٍ في ذاكرتنا: تلك الورقة التي لا تذبل ولا تهوي، اسـمُها نقولا زيادة.
كلام الصوَر
- لا “شيخ المؤَرخين” بل “شابُّ شيوخهم”
- مذكراته أَيَّام من الحصاد والجنى
- متابعته الرحالة العرب
- غَوصُه على العرب وقدامى المسيحيين
- لدى منشورات دار الهلال – القاهرة 1959
- أَعلام عرب محْدَثون
- في ميزان التاريخ
- الصورة الأَخيرة ووراءَنا وَجْهُهُ بريشة وجيه نحلة