الياس أبو شبكة في كتاب هنري زغيب:
ولادة جديدة لشاعر الحب والوفاء
_________________________________________________________________________أنطــوان أبـــو رحل
صدر للأديب والبحّاثة المجلّي في علم الجمال الشاعر هنري زغيب جديدٌ بعنوان: “لِكَي تُحِبَّ أَتيتَ الأَرض- الياس أَبُو شَبَكة من الذّكرى إلى الذّاكرة”- عن منشورات درغام في 328 صفحة من الحجم الكبير طباعة فاخرة.
يغويك هذا الكتاب ويشدك. تسافر فيه فيسفر لك عن شاعر تحبه من خلال “عشقه وشعره” معاً.
كتاب يقع في باب التُحَف الأدبية والفنية، مضموناً وطباعة وأُسلوبَ عرض، فتشعر أنك أمام إنجاز على نُدرة المعهود في الإضاءة على شعر وشاعر، قلّ أن تشهد مثله الساحة الأدبية.
كأَني بالذواقة هنري زغيب يكمل مشواره الإبداعي في خط الرواد الكبار، بعد كتابه السابق “سعيد عقل إن حكى”، وكتابه الأَسبق “جبران خليل جبران شواهد الناس والأمكنة” (كلاهما أيضاً لدى منشورات درغام) إلى جانب نتاجه الإبداعي الخصب نثراً وشعراً، وأنشطته الثقافية المتعددة، ما يجعل هنري زغيب “مايسترو” الحركة الأدبية والفكرية والفنية في لبنان، هو الذي له في جميع مناطقه الموقع المستحب في العقول والقلوب قبل المنتديات الثقافية التي يسهم في تشجيعها وتطويرها. ونحن في “مجلس قضاء زحلة الثقافي” لنا منه رنات المحبة والود.
في ندوة زوق مكايل عن الكتاب لفتتْني مداخلة الروائية إملي نصرالله. رائعة كانت، لا لأنها صاحبة يراع مذهب بل لنضارة كلماتها التي ألقت فيها الضوء بحب كبير، وصدق كبير على اثنين: الأول الياس ابو شبكة فأظهرت إلمامها العميق بأحد رواد الشعر في لبنان “شاعراً فريداً في عطائه كما في حياته، كان سابقاً عصره مميزاً في أعماله الشعرية كما في مزاجه”، والآخر هنري زغيب الذي قالت عنه في موقف نبيل: “عنوان الكتاب – لكي تحَبّ أتيت الأرض – ينطبق عليه وعلى أفعاله وما يصدر عنه”. وكشفت أنّ “هذا المولود، الذي أطلَّ بعد حمل أربعين عاماً أو أكثر، جاء بأنوار وألوان توقظ الذاكرة”.
شهادة إملي نصرالله زادتنا قناعة بأن المؤلف بحاثة ماهر، يعرف كيف يغوص على الدرر، ويتفرد بالتنقيب عن كنوز في تاريخ أدب لبنان ويسلط: “الأضواء على وجوه غابت وكانت أنوار أزمنتها، إن في الشعر أو سواه من صُنوف الابداع”، وهذا ما يجعل هنري زغيب حارساً أميناً على خزانة الذكريات الثمينة لرواد الأدب في لبنان، ويكفي أن نشير إلى إنجازاته الفريدة في إدارة “مركز التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الاميركية، لكي نتّعظ وننحني.
* فرادة أسلوب في سيرة شاعر
هنري زغيب، في تحفته الجديدة، نحات يلي نحاتاً في عملية الإنجاز والإكمال.
عرف كيف يتفرد بابتكار أسلوب الأحاديث المباشرة مع أصدقاء أبو شبكة وعارفيه، فأعاد كشفه لنا من خلال “عشقه وشعره معاً”، حرفاً حرفاً، كلمةً كلمة، ومن هنا فرادة طرحه وعرضه إذ يقول في الصفحة 317: “منذ آليتُ على قلمي أَن أُتابع هذا الشاعر الذي جئتُ الى الشعر بفضله، لم أَدَعْ نصاً منه أو عنه أو صديقاً له إِلا قطفتُ خميرتَه وأَودعتُها مقالةً أو خزانةً في انتظار أن تأتي الساعة”.
مهارة هنري زغيب تكمن في معرفته العميقة بأن سيرة أبو شبكة “رُغم ورودها واضحةً في قصائده ونصوصه، ظلَّت مُتَرنّحةً بين تقدير وتقرير لكثرة ما كانت عليه من نسْجٍ، معظَمُه متخَيِّلٌ ليس فيه دوماً نور الحقيقة”. ويضيف: “كان لا بدَّ من الذهاب الى الينبوع للاستقصاء. والينبوع: شهادات أَقربين إليه نسَباً وأصدقاء حلقة، وعارفين إِصداقاً، حتى تكتمل الصورة واضحةً منسوجةً متأنيةً كشالٍ يُطْلِعه بدِقَّةٍ ماهرة حيّاكٌ عتيقٌ على نوْل الذوق. وهكذا كان … فَكَان هذا الكتاب”.
وهذا ما تطلَّب من هنري زغيب جهداً ووقتاً كبيرين (على مدى أربعين عاماً) لا يضاهيهما إلا دقته في المقارنة وجهده التنقيبي عن كل صغيرة وكبيرة في حياة أبو شبكة. وهو بذلك اشترك في عملية الخلق، وكان بعضاً من كل واحد بين الذين تحدثوا عن أبو شبكة أو أدلوا بشهادة حيَّة، وعرف زغيب، بقلمه الساحر، كيف يأخذ بها ليكشف كل جماليات الياس أبوشبكة مما أعاد ولادته جديداً على يديه بأسلوب رائع مبتكر، ما سيحبب الأجيال الجديدة في العودة بلهفة إلى شاعر “غلواء” والإقبال بنهمٍ على “أَفاعي الفردوس” و”الألحان” و”نداء القلب” وإلى الأبد”.
ولنا وقفة إعجاب أمام تعدُّد الشهادات والشهود، كان منها هنري زغيب نحاتاً مرهف الشعور سريع الأخذ والانطباع، ذواقة يختار الطرائف ويكسوها ببيانه ثوباً قشيباً تتجلّى فيه الأناقة، ويضفي عليها من ذوقه المرهف وخفة روحه وطيّبات فكاهته لوناً من المرح تجوز فيه التعرية حتى الإباحة.
* جديد في خارطة العشق والعشاق
في هذا الكتاب-التحفة تبلورت كلُّ ميزات واقعية سحرية تلقيناها نصوصاً عجائبية ثرية بالفانتازيا، موشاة بقصائد مختارة من شعر أبو شبكة، استطاع المؤلف بها جميعها أن يبدع لوناً نقدياً جمالياً أفاد فيه من مختلف أجناس هذا اللون الجمالي في الكتابة عن الشعر، من دون أن يفقده رصانته الاكاديمية.
هذا كتابٌ قوامه التنقيب والكشف والتوظيف، يزيل عنك شهوة المعرفة الباقية لحياة أبو شبكة، ودهشة التساؤل القائمة حول عشيقاته، وألق الكشف البادي حول إبداعه، ما عكس بُعداً من أبعاد الزمن الشعري قد يكون بمثابة نهضة بكاملها.
حول عشقه كتب هنري زغيب (صفحة 232): “سنوات طويلة ظلَّ أبو شبكة يَعبرُ من هوىً إلى هوىً، ومن قصّةٍ إلى قصّة، ومن عَلاقةٍ الى علاقةٍ، ومن مغامرةٍ الى مغامرةٍ، ومن امرأةٍ الى امرأةٍ، حتى وصل الى “امرأة” حياته التي اكتَمَل بها الحبّ ومَعها وفيها… وصلَ إلى ليلى، وجهر في وجههم جميعاً ما قاله في قصيدة “هذه خمري” من “نداء القلب”:
“لم يكن ماضيّ في الحُبّ سوى مطهرٍ أفضى إلى هذا النّعيمِ”.
وفي الصفحة 247 كتب: “هذه الـ “ليلى” غنّاها أبو شبكة بأنقى ما يكونُ الشعرعن أنقى ما يكون الحُبّ، إذ قال فيها ذات يوم (“نداء القلب”)
“كأَنَكِ شَطْرٌ من كِياني أَضَعْتُه ولَمّا تلاقينا اهتَدَيتُ إلى أَصلي”
وحول شعر أبو شبكة طرح هنري زغيب (صفحة 303) سؤال: “ما الذي يبقى اليوم من الياس أبو شبكة”؟ وأجاب: “غاب في ربيع العمر (43 عاماً)، ليترك شعره، كما حُبِّه، حيَّاً لا إِلى ذُبول. الكلاسيكيون يجِدُون فيه علَماً من أَعلامهم. المجدِّدون يَجدونَ معه طَليعة التجديد. الحداثيون يحّبون نضارته ولا يرفضون كلاسيكيّته. هكذا تبقى اليوم “أفاعي الفردوس”علامةً مضيئة في الشعر المعاصر، وتبقى قصائد “نداء القلب” و”إلى الابد” اُغنياتِ حبٍّ تنام حدَّ مخدة العشاق”.
ويا لروعة ما ينتهي اليه هنري زغيب: “حياتُه هي قصيدتُه الحيَّةُ النابضةُ التي بقيَت، وستبقى، سمفونيا غير منتهية. لم يكن الشعر تعبيراً عن حبّه، بل كان الحب تعبيراً عن حياته. الياس أبو شبكة لم يكن رجلاً قَدَرَهُ الشّعر بل كان صرخةَ الحب في صوت شاعر”.
* فؤاد حبيش العصر الجديد
في كل هذا الكشف الجمالي كان هنري زغيب عاشق شعر وشاعراً، وعاشق لغة أصيلاً، مترف صوغٍ، محكم تنزيل، يلاعب الكلمات ويراقصها ببراعة فنان يحترم قدسية التعبير وحرمة الكلمة والجرأة في التصدي للقضايا الأدبية التراثية الكبرى والسعي في نفس الوقت الى الجديد في النتاج أو الاضاءة عليه، مجاراة لتطور العصر. وهنا سر هنري زغيب بل أعجوبته في اكتشاف أجيال من الأُدباء والمفكرين، وفي دفعهم إلى العمل وإغرائهم بجمالات الحضارة، وفي لفتهم إلى ينابيع الآداب العالمية ثم في نشر نتاجهم وتقييمه وتدعيمه. إنه فؤاد حبيش معاصر. كان الشيخ فؤاد، حسب عارفيه، عصراً ولم يكن مؤسسة أو فرداً. اختصر زمناً كاملاً واستأنس به أرباب القلم، وحوله التفوا، وفيه ابتكروا وخلقوا وأبدعوا.
وفي الأحاديث مع هنري زغيب خلال المهرجانات الشعرية في زحلة، كانت معاني الجمال تظهر، أكثر ما تظهر لديه، في تقدير كل قيمة إبداعية تعرض عليه وفي التحمس لها، فتحس أنه يشعر بأن أفراح الدنيا تغمره حين يعلم أن قيمة جمالية جديدة ظهرت في هذه الارض.
* سيد العشاق يغني الحب والأَرض
كتاب “الياس أبو شبكة من الذّكرى إلى الذّاكرة” يؤكد لنا بأن هنري زغيب متجدد مع ذاته ومع الآخر، فلا انطفاء لمصابيحه، ولا مرارة لحلاوته. عرف كيف يلملم شاعراً أزهرت فيه الحداثة فغناها المغنون، وتعلم من موسيقيّته الملحنون.
الياس أبو شبكة، على يد هنري زغيب، هو “سيد العشاق” وشاعر غنى الحب والأرض وكان عاشقاً في كل ما غنى. فالعشق هو الضوء القمري الموحِّد قصائده على اختلافها. هو ذلك الخِدْر الشائع بين قصيدة وقصيدة، بين صدر وعجز، حتى لكأنه صوفي في حالة وصل دائم، توحداً بالحبيبة، فلا يعرف الرائي: أهذا هو الشاعر أم القصيدة؟
“الأسلوب هو الرجل” يقول الغربيون. هذه الحقيقة التي لا تصْدُق في كاتب أو شاعر، أصدقها في هنري زغيب الذي يمضي حياته يحمل أَمانة الكلمة، يؤديها إلى أجيال جديدة، بما في حروفها من فكر خارق وعلم متنوع وجمال أخاذ. فكأن كل ما يعنيه في ممارسة الكتابة، نثراً وشعراً، أن يسابق الزمن في أداء هذه الأمانة بكل دقة وموضوعية، لا يصرفه عنهما ما كان يشغل من سبقه من اهتمام بألوان البديع وتزويق الجمل والعبارات، فجاء فنه متفوقاً على صنعتهم، وأسلوبه أبرع من أساليبهم.
* الوفاء من “زحلة” الوفاء
وختاماً، عزيزي هنري:
سلام لك، وسلام على جديدك.
كن على ثقة بأن زحلة، “مدينة الشعر والخمر”، ستكون نشوى أكثر كلما رشفَتْ من خمرة إبداعك وهي أرق وأطيب مما في خوابيها العتاق.
وكن على ثقة أكثر أنْ كلما قرأَتْ لك زحلة “لِكَي تُحِبَّ أَتيتَ الأَرض” سيزداد حبُّها لك، وتتباهى بصداقتك، كواحد من كبار الكهنة في معابد الجمال، وتلّوح لك بمناديلها المطرزة بورق الدوالي والقصائد المذهبة. وهي لا تنسى أبداً تحفتك “سعيد عقل إن حكى”، وقد ملأْتَ بها دنانها بخمرة الأصالة، وأعدْت صياغة شاعرها، كما قال فيه الرئيس شارل حلو، “بقامته مثل الأعمدة، وبضحكته مثل الطفل، وبمحبته مثل القديسين، وبصوته الطالع من وهج الأساطير…” فكان سعيد عقل شاعر العصر.
وكن على ثقة، أكثر فأكثر، بأن زحلة لن تنسى أبداً شاعرك الياس أبو شبكة الذي أعدت أنت صياغته لنا كشاعر فريد، ملتهب بالعشق والشعر، كان قدَرُه أن يلقي “آخر قصيدة عن زحلة وفي زحلة بالذات”، وأنتَ توَّجْتَها في كتابك تحت عنوان: “زحلة آخر قصيدة … آخر صورة” لتظل من علامات مدينة الشعر الفارقة.
إنها القصيدة الخالدة التي أنشدها الشاعر الكبير الاستاذ الياس أبو شبكة في مهرجانات “خميس الجسد” نهار الخميس 20 حزيران 1946، في مهرجان استثنائي على منبر الكلية الشرقية، ووصفتها “زحلة الفتاة” (عدد 2874 – السبت 29 حزيران 1946) بعبارة: “استحق أبو شبكة من أجلها الجنسية الزحلية، وصفّق الجمهور لكل بيت من أَبياتها تصفيقاً حاراً”.
وهنا بعض أبياتها لنستزيد من التصفيق:
هذهِ قُبـــــلتي وهــــــــــــذا نشيدي أنــــا يا زحلُ ما نكثْتُ عهودي
جئتُ في موسم الوفاءِ وقلبي وعـــــــــــــيوني وما عليها شهودي
ويُنهي أبو شبكة تغريده بالقول:
أنتِ يا زحلُ في ضميريَ لحنٌ لم يزل بعدُ في الخيال البعيد
أنتِ شعـــــــــرٌ من السماء عظيمٌ كيف أجلوه بالكلام الزهيد؟
زحلة 22-12-2013
————————————————–
http://www.aliwaa.com/Article.aspx?ArticleId=222640
http://www.al-akhbar.com/node/216174
http://www.alanwar.com/article.php?categoryID=10&articleID=244708