هنري زغيب
يُجمع النقَّاد على أَنها أَول رسامة روسية ذاعت شهرتُها عالَميًّا، وبين أُولى رسامات بلغْنَ في روسيا المستوى الأَكاديمي. وهي، إِطلاقًا، بين أَبرز وجوه الفن الروسي في مطلع القرن العشرين.
سليلة أُسرة فنانين
وُلدَت في 12 كانون الأَول/ديسمبر 1884 في بلدة نِسْكوتْشْني الريفية (30 كلم شماليَّ شرق الحدود الأُوكرانية الروسية)، نالت الجنسية الفرنسية سنة 1947، وتوفيَت في پاريس عن 83 سنة مساء 19 أَيلول/سپتمبر 1967.
تتحدَّر من أَصل فرنسي: أُسرة بُنْوَى لانسوراي المعروفة بموهوبين في أَكثر من دُربة فنية. جدُّها لأُمها أَلكسندر بُنوى كان رسامًا وناقدًا فنيًّا شهيرًا في خمسينات القرن التاسع عشر، يُعزى إِليه تأْسيسُ “بيت الفن” في موسكو لتدريب الفتيات على الرسم. والدُها أُوجين لانسري كان نحاتًا بارعًا اشتهر بنحْت الأَحصنة. هكذا نشأَت الفتاة منذ طفولتها الأُولى في هذا الجو الفني، وأَرسلها والدها إِلى سانت پيترسبورغ لدراسة الرسم في معهد خاص أَسسَتْه راعيةُ الفن فترتئذٍ الأَميرة ماريا تينيشيڤا (1858-1928). بعدها أَمضت فترة في محترف الرسام الواقعي المعروف إِيليا ريـپِـن (1844-1930) ثم في محترف تلميذِه رسام الوجوه البارع أُوسيپ بْراز (1873-1936).
الغدُوّ إِلى الحقول
سنة 1902 قامت برحلة إلِى إِيطاليا. وسنة 1905 تزوَّجَت من نسيبها بوريس سيريـپـرياكوڤ، وسافرت بتشجيع منه إِلى پاريس تتعمق في دراسة الرسم لدى أَكاديميا “لا غراند شوميير” الشهيرة بمحترفاتها الحُرة للرسم والنحت (تأَسسَت سنة 1904).
في بلدتها الريفية بدأَت ترسم مخططات للفلَّاحات. كانت تغدو صباحًا باكرًا كي تَراهُنَّ غادياتٍ إِلى الحقول وبادئات بالعمل، في ملامح واضحة على وُجوههن من الكرامة والكبَر، كما في نفوس الروسيات ذوات الأَنفة. وضعت عددًا كبيرًا من هذه اللوحات تَظهر فيها الفلَّاحات أَقرب إِلى الآلهات اليونانيات منهن إِلى عاملات في الحقول. ولوحتها “تبييض الشراشف” حصدَت مديحًا من النقاد لما فيها من تصوير نفسية العاملات أَكثر من براعة التفاصيل التشكيلية في ثيابهم وحركاتهنّ. وتميَّزت أَعمالها الأُولى بمشاهد من الطبيعة الروسية والحقول والتقاليد الشعبية والوجوه، من هنا لوحتها الشهيرة “الحصاد” (1915).
الأَولاد وراقصات الباليه
لزينايدا لوحات كثيرة عن أَولادها متجنبة رسم الأَلعاب والجَو الأُمومي. فليسوا يقفون أَمام عدسة كاميرا بل تلتقط لهم لحظاتٍ عفويةً وهُم منهمكون في ما يعملون. ففي لوحتها “أَولادي يتناولون الفُطُور” واضحٌ هدوء البيت عكس ما في روسيا وقتئذٍ من اضطراب كان بدأَ مع بدايات الحرب العالمية الأُولى. ومن سلسلة لوحاتها كذلك راقصاتُ الباليه بعدما انتسَبَت ابنتُها تاتيانا إِلى مدرسة الباليه. وضعَت لوحاتٍ للراقصات وهي تشاهدهنَّ مباشرةً على المسرح إِذ سُمِح لها بالجلوس في كواليس مسرح مارينْسْكي للأُوپرا والباليه (تأَسس في سانت پيترسبورغ سنة 1860).
الوجوه والرسم الذاتي
رسمَت الكثير من الوجوه لأَفراد من أُسرتها والأَصدقاء، بريشة سلسة شاعرية تنُمُّ عن أَجواء فرح إِيجابية. وكان رسمها الذاتي هوايتَها وبراعتَها، تَظهر فيها مشعَّة أُنثويًّا مع مسحة رومنسية عذبة بقيت تتجلَّى حتى حين ترسم وجوه نساء أُخريات.
من أَنجح لوحات رسمها الذاتي: “التسريحة أَمام المرآة” (1909) رسَمتْها من المرآة العاكسة على منضدة الزينة. وحملت إِليها هذه اللوحة شهرة واسعة لأَن موضوعها كان نادرًا عصرئذٍ. وظلَّت شهرتها تتنامى في سنين منتجة وحياة هانئة إِلى أَن انهارت الأَمبراطورية الروسية واندلعت الثورة الحمراء (1917-1923) فانقلبَت حياتها: احترقَت ممتلكاتها، ومات زوجها بالتيفوئيد وكانت تحبه كثيرًا، وخسرت أَموالها وافتقرت كليًّا مع أَولادها الأَربعة، لكن موهبتها الإِبداعية لم تنكسر: بقيَت ترسم الطبيعة بالقلم الرصاص والطبشور في أَعمالٍ ذات طابع حزين.
جنسية الخيار الصعب
سنة 1920 انتقلت إِلى مدينة پتروغراد (معروفة هكذا من 1914 إِلى 1924، ثم سميَت لينينيغراد بين 1924 و1991 حين عاد اسمها رسميًّا سانت پيترسبورغ). ردَّت جميع الطلبات التي كانت تريدها رسْم رموز الثورة، رافضةً كل اشتراك بأَعمال الثورة. لذا أَيقَنَت أَنْ ليس لها في روسيا السوڤياتية أُفق ولا أَمل لإِعالة أَولادها. راحت، كي تُعيل أُسرتها، ترسم وجوهًا بتكليف من أَصحابها. لكن هذا لم يكن كافيًا. وجدت أَن الحل الوحيد هو الخروج من الاتحاد السوڤياتي إِلى فرنسا والعمل فيها. سنة 1924 غادرت والدتَها ذات الأَربع والسبعين سنة تاركةً معها أَولادها الأَربعة، وسافرت إِلى پاريس ترسم، كي تعيش، وجوهًا وفلاحين وصيادي سمك. وسافرت فترة إِلى المغرب ورسمَت لوحات كثيرة لوجوه البربريات الشابات. ظلت مواطنة سوڤياتية حتى 1940، آملة أَن تعود إِلى بلادها فتلتقي بأَولادها. وإِبان احتلال النازيين فرنسا هُدِّدت أَن تُنفى إِلى معسكر اعتقال بسبب علاقتها بالاتحاد السوڤياتي.
بطاقة “لاجئة دولية”
من أَجل أَن تنال بطاقة “وثيقة لاجئة دولية” معروفة بـ”جواز نانْسِن” (شهادة كانت يُصدرها “مكتب نانسِن الدولي للَّاجئين” بديل الجواز الدولي العادي الذي يتيح لحامله دخول البلدان الأُخرى) طُلب منها أَن تتخلَّى عن جنسيتها السوڤياتية، ففعلَت.
سنة 1957، وكانت تجاوزَت السبعين، جاءتها إِلى پاريس دعوة من الحكومة السوڤياتية أَن تعود إلى بلادها. لكن مرضها وعجزها أَعاقاها، وكانت أَوقفت الرسم. لذا رفضَت العودة.
سنة 1965، وكانت في الحادية والثمانين، وبعد خمس سنوات من التحضير، أَثمرت جهود ابنتها تاتيانا بإِنجاز ثلاثة معارض معًا لأَعمالها في موسكو وكييڤ ولينينغراد. وكانت زينايدا تنتظر ردة فعل الجمهور حيال أَعمالها. كان النجاح باهرًا إِذ ظهرت أَعمالُها أَخيرًا لجمهور كان يعرف عنها ولم يكن رأَى أَعمالها التي، بعد طول غيابٍ، عادت إِلى أَرضها الأُمّ.
سوى أَنها لم تَذُق طويلًا فرحَ النجاح لأَنها لم تعش بعدَذاك سوى بضعة أَشهر: انطفَأَت وحيدةً في پاريس، ريشةً مقهورةً في بُعاد المنفى.
كلام الصُوَر:
- زينايدا في رسم ذاتي (1956) وفي صورة فوتوغرافية (1964)
- “التسريحة أَمام المرآة” (رسم ذاتي 1909)
- “أَولادي يتناولون الفطور” (1914)
- رسم ذاتي (1911)
- “صبيَّة على نور شمعة” (1911)
- “أَنا وأَولادي” (لوحة 1921)، وهي وأَولادها (فوتوغرافيا 1914)