هذه السنة يبلُغ الخمسين (1973-2023).. منذ نصف قرن وهو على خشَبتنا اللبنانية حضورٌ ساطعٌ يتجدَّد مع كل عمل، يتوهَّج مع كل نص، ويُنَصِّع كلَّ إِخراج.
في مسرح غولبنكيان (الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU) كنت أُراقبه متقمِّصًا “المصطفى” في مقاطع من “نبي” جبران قدَّمَتْها لينا خوري بإِخراج مغاير.. رُحتُ أَغيمُ في أَدائه يخاطب أَهل أُورفليس كأَنْ من وراء الزمن، أَو كأَنْ من غَدِهِ كما شاءَه جبران.. وكنتُ في هنيهاتٍ أَنسى أَنه يؤَدِّي نَصِّي بالعربية، فيأْخُذُني حضورُهُ إِلى شخصية ميثولوجية، أَضافت عليها لينا خوري ثوبًا متقشِّفًا كما من تراويح الدراويش فبات تحت أَضواء المسرح راهبًا بوذيًّا في “پاغودة” نائية.
قبل أَيامٍ جلستُ إِليه أَتصفَّح معه سيرته، فإِذا به، منذ ولادته في شاتين (قضاء البترون-1948) مرصُودٌ على قدَرٍ واحدٍ وحيدٍ: المسرح.. وهو انصاع لهذا القدر.. لم تكُن له تطلُّعات مدرسية ولا أَكاديمية إِلَّا إِلى وُجْهة واحدة: المسرح.. وحين كان يَدلُف سرًّا (عن أَهله) إِلى تمارين منير أَبو دبس في راس بيروت، وإِلى مسرحيات شوشو في مسرحه الوطني، كان توَّاقًا إِلى حلم واحد: أَن يكون هناك، فوق، على الخشبة لا في مقاعد الجمهور.
مصادفة؟ ربما.. لكنها بنْتُ القدَر أَن يَعمل لدى بريجيت شحادة مُوزِّعَ مُلْصقاتٍ لمعارضها، وأَن يلتقي هناك زوجَها جورج شحادة، وأَن يرسلَه شحادة إِلى باريس (1974) وأَن يتعرَّف بــجان لوي بارو ويبقى ثمانية أَشهر في مدرسة هذا المخرج العالمي.
ويعود بيروت… إِلى اتِّباع قَدَره.. يعود إِلى ريمون جبارة أَحد أَعمدة ذاك القَدَر.. وتكون مسرحية “شربل” (1977)، ويلتمع اسمه لافتًا في المسرح اللبناني.. تتكرَّر تجربته مع ريمون (“قندلفت يصعد إِلى السماء”).. يَتَوسَّع أُفق مشاركاته: جلال خوري (“كذَّاب”)، أَنطوان ملتقى (“الحرب في الطابق الثالث”)، بيرج فازليان، يعقوب الشدراوي، جيرار أَفيديسيان، وسواهم.
منذ “يسوع” منير أَبو دبس (1973) كان يتلمَّس الطريق، لكن خطواته كانت وُثْقى لأَنه يَعرف.. يَعرف إِلى أَين يَقودُه هذا الطريق.. الإِيمانُ زادُ مَن يعرف إِلى أَين الطريق.. هكذا هو: كان يَعرف.. كان منذ البداية واعيًا مسؤُوليةَ الوقوف أَمام الجمهور فيحترم الجمهور.. يبدأُ من النص: احترام النص، الدخول إِلى تفاصيله.. الممثِّل مُتَرجِمُ النص على الخشبة.. هنا المسؤُولية: إِعادة كتابة النص شفَويًّا على المسرح عبْر الأَداء الأَمين.. كان يجد صعوبةً في تحضير الشخصية وسهولةً في أَدائها بعدما يكون تَلَبَّسها.. لذا ينعزل قبْل رفع الستارة كي “يَدخل” في الشخصية قبل أَن يُدخلَها إِلى المشاهدين.. وقد يبقى دقائقَ فيها بعد انسدال الستارة..
على المسرح لا يَسمعُ صوتَه.. الجمهور يَسمَع صوتَه.. هو يَسمَع الشخصية، يكُونُها، تَكُونه.. إِنها صعوبةُ أَن يَستمع إِلى الذات قبل بلوغه الآخرين.. هنا مسؤُولية قبُول الدور وتاريخ شخصيته منذ ولادتها.. التمثيل ليس قناعًا بل وجهٌ سافِر، والسُفُور مسؤُولية الوقوف أَمام مئات الناس في وقت واحد.
تلك الجلسةُ إِليه على شرفة ضهور الشوير وَدِدْتُها لا تنتهي، وأَنا أُصغي إِليه بــ”مسؤُولية” أَنني أُتابع في صوته نصفَ قرن من النصوص.. خمسون سنةً كان يَضَعها أَمامي في عفويةِ مَن يَبْهَر ولا يدري أَنه يَبْهَر.. هذه علامةُ مَن يعرفون قَدَرَهم ويَسيرون – بل يرفضون أَن يسيروا إِلَّا – إِلى وُجْهةٍ واحدة: طريق هذا القَدَر.
هكذا هو: ما زال يَسيرُهُ منذ خمسين سنةً، وبدأَ يحلُم كيف يَفتَتح خمسينيَّته الجديدة.
وهكذا تَكون رُفِعَت الستارة يومًا فكان… رفعت طربيه.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com