هنري زغيب
في الجزء الأَول من هذا المقال ذكرتُ كيف أَن اجتزاء رسام في ما سوى 10 أَعمال له، لا يكفي لقراءة نسيجه الفني الكامل، لأَنه في كل لوحة ينفث إِبداعه كأَنه في اللوحة الأُولى. و”أُولى” بَعد “أُولى” يُحاك أُسلوبُه العام من مُجمَل أَعماله.
وهذا ما ينطبق على الرسام الفرنسي كلود مونيه (1840-1926) الذي ترك نحو 2000 زيتية وعددًا وفيرًا جدًّا من الرسوم والمخطَّطات والپاستِل.
عالجتُ في الجزء الأَول خمسَ لوحات. هنا – في هذا الجزء الثاني الأَخير – أُعالج اللوحات الخمس الأُخرى.
- محطة سان لازار للسكك الحديدية
اشتُهر مونيه برسمه عددًا كبيرًا من اللوحات سنة 1877 عن محطة سان لازار للسكك الحديدية، في پاريس وخارجها. وفيها واصل دأْبه على أَن يكون شاهدًا على الحداثة عبر وصفه المحطة تفصيليًّا بطابعها الهندسي وشبكات خطوطها وحركة القطارات ودخانها المتصاعد في الريح، وسواها من التفاصيل الدقيقة، كالواجهة في خلفية اللوحة التي تشي بما سيكون عليه تركيزُهُ في لوحاته اللاحقة. ففي المعرض الانطباعي الثالث (1877) ثماني لوحات لتلك المحطة، كثيرة التشابه إِنما تدل على تَغايُر جليّ في بعض التفاصيل، ما يجعل لوحاتها ذات دقة عالية هندسيًّا وتشكيليًّا، وهذه من الفَرادات النادرة في أُسلوب مونيه.
- زهر الخشخاش
في المعرض الأَول للاتطباعيين (15 نيسان/أَبريل 1874 – في الطبقة الثانية من المبنى 35 على شارع الكبوشيين، پاريس، لدى محترف المصوّر الفوتوغرافي نادار)، عرض مونيه لوحته “زهرة الخشخاش” (كان رسمها سنة 1873) وفيها زوجته الأُولى كاميليا وابنهما جان وسْط حقل مزهر. وغالبًا ما كانت أُسرته، أَو أَفراد منها، مواضيعَ رئيسةً في لوحاته. فهو كان يُمضي، برضى ومتعة، أَوقاتًا مديدة مع أُسرته وأَنسبائه وأَقربائه. وهذه الظاهرة لديه أَطلعَت من ريشته لوحات رائعة، بينها لوحته “المرأَة والمظلَّة” (1875) وفيها كذلك زوجته كاميليا وابنه جان. لكن هذه الظاهرة، مع تقدُّم مسيرته الفنية، أَخذت تخفُّ، فَتَضَاءَلَ حضور الأَشخاص في أَعماله وازداد حضور المناظر الطبيعية. فالبيئة الطبيعية التي اقتطف منها مواضيع لوحاته، تعكس ما في داخله من توق إِلى إِخراج ميوله الطبيعية بإِعطاء المنظر الطبيعي حياةً نابضة فيتحرَّك المكان. ولكي يتمكن من السيطرة على أَلوان تناسب الفصول، كان يرسم كل فصلٍ من السنة في أَوج ازدهاره وانتشار أَزهاره ومناظره، فتتأَلق الأَزهار في وهج الشمس، وتشعُّ من اللوحات نضارة لافتة. لهذا جاءت لوحاته عن حديقة منزله في جيڤرني قطعًا فنية نادرة، حتى أَنه ادَّعى يومًا أَنه “بستاني خبير” أَكثر مما هو “رسام قدير”. وفي أَيامه الأَخيرة كان يتحدَّث عن حديقته أَكثر مما عن لوحاته. فالمحيط الذي عاش فيه كان يُلهمه حتى جعله مكان تأَمُّل أَكثر مما هو مكان جامد.
- أَغمار البيادر وكاتدرائية رُوَان
منذ سنة 1890 راح مونيه يرسم مجموعةً من 25 لوحة لمكان واحد: أَبرزها أَغمار القمح على البيادر، وكاتدرائية رُوان وأَشجار الحور (وهي أَمكنة قرب بيته في جيڤرني). وفي جميع أَعمال هذه المجموعات تتقارب التقنية في لمسة الريشة، وخصوصًا انعكاس النور في حيثما يجب أَن يكون قويًّا أَثرُ هذا النور. وعُرِفَ عنه أَنه كان يباشر أَكثر من لوحةٍ معًا في وقت واحد، لكي يتابع تغيُّر انعكاس النور خلال ساعات النهار، وخصوصًا متغيِّرات الطقس خلال فصول السنة في المكان الواحد، وهذا يتطلب من الفنان تركيزًا غيرَ عادي حتى يتمكَّن من إِظهار ذلك في لوحاته. وهذه الدقة استوجبت تأَثُّر الرسامين به في النصف الأَول من القرن العشرين.
- القناة الكُبرى
كان مونيه كثير الأَسفار والتنقُّل، ما أَغناه فُرَصًا ومواضيعَ ورسومًا ولوحات. وكان يسجِّل بريشته المبدعة كل منظر أَينما يكون. وبقيَت فيه قويةً تأْثيراتُ النور من خدمته العسكرية ضمن الجيش الفرنسي في الجزائر. وحين انتقل إِلى لندن هربًا من الحرب الفرنسية البروسية، أَفاد من ذلك كي يرسم المدينة، بما فيها حدائقها العامة ونهر التيمز (1871). وفيها اكتشف أَعمال الرسام الإِنكليزي الرومنسي وليم تورنر (1775-1851) والتقى تاجر اللوحات الشهير پول دوران رُوِيْل (1831-1922) ومشجِّع الانطباعيين وداعمهم. وبقيت خيالات لندن في باله حتى عاد إِليها لاحقًا وأَنتج فيها عددًا آخر من اللوحات.
خلال زيارته لندن للمرة الأُولى جال على هولندا وأَحب كثيرًا فيها حقول الزنبق والطواحين والقنوات، وأَمضى وقتًا في النروج رسم خلاله سنة 1895 مجموعة لوحات عن جبل “كولساس” ذي التلَّتَين الصخريتَين الجميلتَين. وواصل تنقلاته إِلى أَنحاء داخلية عدة في فرنسا. وحين زار إِيطاليا توقف في جَنَوَى، وخصوصًا في البندقية التي سَحَرَتْهُ قناتُها المدهشة بمياهها وانعكاس النور فيها، فلم يستطع الرسم طوال العشرة الأَيام الأُولى، حتى إِذا تشبَّع من سحرها وهندسة بيوتها المزروعة في المياه، انصرف إِلى ريشته يستنطقها انطباعاته في لوحات جميلة جدًّا (وضعها سنة 1908).
- مجموعة زنابق الماء
بين 1890 ووفاته سنة 1926، كان بيته في جيڤرني وحديقته ومحيطه، مصدر المواضيع شبه الوحيد لتغذية ريشته. لذا وضع عددًا كبيرًا من اللوحات لزنابق الماء المتلأْلئة في حديقته، وكان ذلك هاجسًا قاده إِلى أَن يرسم فيها وعنها نحو 300 زيتية، بينها 40 من الحجم الكبير و3 جدرانيات. وركَّز في معظمها على الزنابق الطافية فوق وجه الماء وانعكاس ظلِّها على الماء، ذلك أَنه تحرَّر من رسم الأَشخاص في لوحاته فتوسَّع أُفقُه إِلى ما بات بعده تأْثيرًا جليًّا في تاريخ الرسم الغربي.
وكأَنما الهدوء في لوحات زنابق الماء كان ردَّة فعل ضد ضجيج الحرب العالمية الأُولى التي قضت على منابع الجمال في الطبيعة، فاندفع إِلى إِهداء الدولة تلك المجموعة الجميلة في اليوم الأَول لإِعلان وقف إِطلاق النار ونهاية الحرب. وهي التي تحتل اليوم قاعتَين كُبرَيَين من متحف الأُورانجري في پاريس وهو استحال بها كأَنه معبد لزنابق الماء بريشة مونيه.
إِنه الفن الخالد في خدمة التاريخ.
كلام الصور:
- محطة سان لازار
- زهر الخشخاش
- المرأَة والمظلَّة
- نهر التيمز قرب وسْتْمِنْسْتِر
- زنابق الماء
- مونيه مبتهجًا بحديقة بيته في جيفرني