“كان همُّهُ الدائمُ جمعَ الصّفّ وتوحيد الكلمة على مختلف المستويات: المحلية والوطنية والإِقليمية، والتقريبَ بين القيادات اللبنانية، والتخفيفَ من حدّة خلافاتٍ غالباً ما كانت تُشعل الأَزَمات في بلدٍ أَرهقَتْهُ الصراعات“.
بهذه العبارة قدَّم صلاح سَـلام، رئيس تحرير جريدة “اللواء”، كتابَ الـمُؤَسِـس “عبدالغني سلام مسيرةُ وفاء” الصادرَ قبل أَيام عن “دار اللواء للصحافة والنشر” في 416 صفحة قَطْعاً كبيراً حاملاً صفحاتٍ رئيسةً من سيرة الـمُـؤَسس وشهاداتٍ عدّةً من سياسيين ونقابيين ودِﭘـلوماسيين ورجالِ دينٍ وقانونٍ وقضاء، ومقالاتٍ مختارةً من صاحب المسيرة، ونُخبةً من صُوَرِه مع قادةٍ ورُؤَساء.
يرسمُ الكتابُ بدايات عبدالغني سلام، ابن بيروت الذي كان في العشرين حين اشترى امتيازَ جريدة “اللواء” بمساعدةِ والده الْكان عائداً حديثاً من البرازيل ويؤمن بشغف ابنِه في الصحافة.
إِبّان انطلاق “اللواء” (مجلةً في تشرين الثاني1963 ثم جريدةً يومية سنة 1970) كانت الصحافةُ اللبنانية “صحافةَ العَرَب”. فيما صُحُف مصر وسوريا والعراق والسودان والجزائر مُؤَمَّـمَةٌ، وصُحُفُ الخليج العربي والمغرب العربي خاضعةٌ للرعاية الرسمية، كانت صحافةُ لبنان مشعَلَ حريةٍ وتَنَوُّعٍ في الآراء والاتجاهات والتوجُّهات.
وكان عبدالغني سلام من التبصُّر أَن حَيَّد جريدته عن المحاور العربية فاعتمد الاعتدال والتوازن، ورفَضَ أَن تَدخل “اللواء” طرفاً في معاركَ إِعلاميةٍ كانت فترتئذٍ محتدمةً بين عواصم عربية متضادَّة، فحافَظَ على عَلاقاتِ صداقةٍ ومشاوَرَةٍ مع قيادات الأَنظمةِ العربية، وحافظ في علاقاته الداخلية على تَسَاوٍ مع القيادات والزَّعامات السياسية، في بيروت خصوصاً ولبنان عموماً، منتصِراً لـمُتطلِّبات الإِصلاح والتحديث في العهد الشهابي منتقداً ممارساتِ أَجهزةٍ كانت فترتئذٍ مسلَّطَةً على الحياة السياسية في لبنان.
حملاتُه ضدَّ تلك الأَجهزة، ومَواقفُهُ الجريئةُ في الدفاع عن حرّية التعبير والممارسة الديمقراطية الصحيحة ضِدَّ سياسة كَـمِّ الأَقلام ومصادرة الرأْي الحُر، كلَّفَتْه السجنَ على افتتاحية “اللواء” (24 شباط 1967): “هل أَتاكَ الحديثُ يا فخامةَ الرئيس؟” طالبَ فيها باستقالةِ الحكومة، وحَـمَّل رئيسَ الجمهورية شارل حلو مسؤُوليةَ زلزالٍ مصرفـيٍّ ماليٍّ ضَرَب الاقتصادَ المزدهِر وأَدّى إِلى انهياراتٍ ماليةٍ أَبرَزُها أَمبراطورية “إِنترا” وشركاتٌ ضخمةٌ لـ”إِنترا” حصصٌ كبرى فيها، بينَها الـ”ميدل إِيست” وكازينو لبنان وشركة الترابة وفندق فينيسيا وستوديو بعلبك. يومَها صدَر القرار بتعطيل “اللواء” شهراً كاملاً، واقتِيد صاحبُها عبدالغني سلام إِلى الاعتقال أَياماً تَحوَّل خلالَها سجنُ الرمل خليّةً يوميةً لشخصياتٍ سياسيةٍ وَوُفودٍ شعبيةٍ، إِلى أَن أُخْلِيَ سبيلُه، وخَرَجَ في تَظاهُرةٍ شعبيةٍ كُبرى امتدَّت من بوّابة سجن الرمل إِلى باب بيته في رأْس النبع.
وإِلى العمل السياسي، يسجِّل هذا الكتابُ مآثرَ كُبرى لعبدالغني سلام في العمَل الإِسلامي، منها انتخابُه أَميناً عاماً للمجلس الإِسلامي الأَعلى برئاسة شفيق الوزان (قبل تَوَلِّيه رئاسة الحكومة)، وانتخابُهُ نائبَ رئيس اللجنة العليا لاحتفالات القرن الخامس عشَر الهجري ودَعْمُهُ نَشْرَ “موسوعة العلماء المسلمين في لبنان” وضعها في 16 جُزءاً المؤَرخ الكبير عُمَر عبدالسلام تدمري.
كتاب “عبدالغني سلام مسيرةُ وفاء” سِـفْـرٌ لبنانـيٌّ موثَّـقٌ لعَـلَمٍ إِسلاميٍّ لبنانـيٍّ وطنيٍّ جَعَل الصحافةَ مَنارةَ هِدايةٍ ومُواطَـنَـةٍ وبِناءٍ، فكانت “اللواء” رسالةً لا جريدةً ومِنبراً لا مِتراساً، ولا تزال اليوم، مع رئيس تحريرها الزميل صلاح سلام، تُكملُ رسالةَ المؤَسِّس بأَن تَكونَ صفحاتُها ضَوْءاً صادقاً في هذا النفَق الذي يَعبُرُهُ لبنانُ اليوم ويحتاج فيه إِلى كُلِّ مُـخْلِصٍ يَحمِلُ إِلى شعبِه نَبرَةً من ضَوْء.