في بعض السائد من الدراسات الأَدبية والبيوغرافية إِلماحٌ إِلى برودةٍ في كتابات ميخائيل نعيمه عن جبران، يَعزُوها مُتَبَنُّوها إِلى “غيرة” نعيمه أَو “حسَده” لانتشار جبران المتواصل عالَميًّا. ويغالي كثيرون – وكنتُ أَنا منهم – فيذهبون إِلى أَن نعيمه لدى إِصداره بيوغرافياه بالإِنكليزية عن جبران (نيويورك 1950) مترجمًا إِياها عن نَصه العربي (بيروت 1934) حذَف من الطبعة الإِنكليزية ما كان أَثار عَتَبَ الجبرانيين عليه لإِيراده في نصه العربي ملامحَ شخصيةً أَو حميمةً من حياة جبران.
أَنا لم أَقرأ الطبعة الإِنكليزية، لكنَّ السيدة سُهى حدَّاد (وحيدة “مي” ابنة نجيب شقيق ميخائيل نعيمه) وهي الأَمينة على إِرث نعيمه وموجوداته وأَغراضه جميعها في بيته السابق (الزلقا) وبيتها الحالي/المتحف (المطيلب) دقَّقَت صفحةً صفحة بين الطبعتَين العربية والإِنكليزية فما وجدَت أَيَّ مقطع محذوفًا في الأَخيرة من الأُولى، ما يُثبتُ أَنَّ نعيمه كان أَمينًا لصديقه في بيوغرافيا الطبعتَيْن.
لعلَّ هذا الميل لدى مُتَبنّي الحذف ومدَّعي الحسد، نابعٌ بعضُهُ من كلامٍ عصبيٍّ وَرَدَ سنة 1945 لدى ملازِمة جبران آخر ست سنوات من حياته: الشاعرة باربرة يونغ (1878-1961) في كتابها “هذا الرجل من لبنان” (الفصل الرابع: “سحر اللغة العربية”) تَذْكر فيه تأْسيس “الرابطة القلمية”، وبين ما كتبَتْ: “منذ تأْسيسها حتى اليوم (1945) تُوفي قائدُها وثلاثةٌ من أَعضائها، وبين الباقين واحدٌ لن أَذكُر اسمه، خَرَج عن الإِيمان بغايتها، فيما يواصل الآخرون وَلاءَهم للإِرث النبيل ووفاءً لذكرى زميلهم الحبيب”.
لكنَّ كلام “الست باربرة” مُجحِفٌ ولا يستقيم، لأَنَّ رفاق جبران، الباقين من “الرابطة” بعد غيابه، اكتفَوا بقصائد رثائه وانطفأُوا عنه، بينما الذي “لم تَذكُر اسمه” – وهو نعيمه بالذات نظرًا لـ”الودّ المفقود” بينهما بسبب رفضْها إِعطاءَه معلومات عن جبران كي تتفرَّد وحدها بكتابتها – يَثْبُت أَنه، بلى: كان وفيًّا لذكرى صديقه في مبادراتٍ عدَّة، هنا بعضُها القليل: تنظيمُهُ الاحتفال الأَدبي الكبير في أَربعين جبران (بروكلِن، الأَحد 24 أَيار 1934)، وضْعُهُ كتابَه البيوغرافي المعروف عن جبران (1934)، إِشرافُهُ على صدور مؤَلَّفات جبران الكاملة (العربية والمعرَّبة) في جزءَين ووضْعُهُ مقدمةً مطوَّلةً لها (دار صادر 1950)، ترجمتُهُ كتاب “النبي” (1956)، كتابتُه بالإِنكليزية مقالًا تحليليًّا معمَّقًا عن”النبي” بعنوان “كُتَيِّبٌ غريبٌ” لـمجلة “أَرامكو وورلد ماغازين” (في عددها تشرين الثاني- كانون الأَول 1964 ص 10 إِلى 15)، كتابتُهُ فصل “حدَّثَني جبران” من كتابه “في مهب الريح” عن حُلمٍ جمعه بجبران، كتابتُهُ فصل “عواصف “العواصف” في كتابه النقْدي “الغربال” وتركيزُهُ على أَهمية جبران الثائر، كتابتُهُ مقالَين مطوَّلَين عنه، الأَول: “جبران في ذُروته” والآخَر: “جبران وتمثالُه” (صدَرا في المجلد السابع من مؤَلفات نعيمه الكاملة). فهل بعدَ كل هذا (وسواهُ كثيرٌ لم أَذكُره هنا لضيق المجال) تقول “الست باربرة” إِن نعيمه “لم يكن وفيًّا لذكرى صديقه كما كان رفاقه الآخرون”؟ وماذا فعَلَ الآخرون إِزاءَ ما فعَل نعيمه الذي كان يَعتبر جبران “شقيق روحه”؟
علامةُ باربرة يونغ في كتابها أَنها كَتَبَتْهُ كلَّه بأُسلوب “الهاجيوغرافيا” (كتابة سِيَر القديسين بتعظيم وتفخيم وخُشُوع) وكانت في كل صفحةٍ واقفةً أَمام شخصيته بانذهال وتقديس فأَفسدَت على جبران كتابتُها عنه بفائض المبالغة.
وعلامةُ نعيمه أَنه نَزَعَ عن صديقه هالة تقديسية تفخيمية مبالِغة، وأَصدَرَه إِنسانًا عبقريًا متفرِّدًا كان هو ذاتُه أَولَ المؤْمنين بفَرادته. من هنا ختامُه كتابَه البيوغرافي بأَنَّ “جبران ليس في حاجة إِلى من يخلِّد ذكْره فهو خالدٌ كإِنسان، وأَبقى أَثرًا كشاعر وفنان. وأَفضلُ ما نكرِّمه به هو نشْرُ أَدبه وفنه على الناس”… وهو هذا ما فَعَل، فلا يجوز الإِنكار حيال هذا الإِكبار.
ميخائيل نعيمه، الخالدُ هو الآخَرُ ساطعًا على جبين الأَدب العربي في القرن العشرين، لم يعُد يحتاج دفاعًا أَو مديحًا. لكنَّ مصادر الدراسة الأَدبية في حاجةٍ دومًا إِلى وقائع ثابتة تَرفُدُ النقْد بعناصر مُوَثَّقة، وهذا ما حاولْتُهُ في هذا المقال.
هنري زغيب