سنة 1957، قُبَيل النهاية من عهد الرئيس كميل شمعون، صدَر في الصحافة الأَجنبية أَن مطار بيروت صُنِّف السادس في العالَم من حيث تجهيزاتُه وقدرتُه الاستيعابية وخدماتُه، وصنِّفَ نظامُه المصرفي أَوَّلَ في قارة آسيا، وكان دولة مانحةً قُروضًا، منها للهند، بما كانت عليه عملتُه اللبنانية من قيمة متينة.
سنة 1963، قُبَيل النهاية من عهد الرئيس فؤَاد شهاب، صدر في مجلة La Revue du Liban خبرٌ نقلًا عن تقرير اقتصادي رسمي جاء فيه أَن لبنان حلَّ رابعًا عالَميًّا، بعد سويسرا وأَلمانيا الغربية والولايات المتحدة الأَميركية، في ازدهار اقتصادي ساطع بين الدول، وَفْق معيار عدد السكان ومساحة البلاد وعدد المصارف وقيمة الودائع فيها داخليًّا ومن الخارج، حتى بلغَت عامئذٍ مليارَي ليرة لبنانية، وثلاثمئة مليون بالعملات الأَجنبية. وخُتِم الخبر بأَن هذا التقرير سيُعمَّم لمناسبة تدشين مصرف لبنان المركزي عامئذٍ في الأَول من آب 1963، وهو بدأَ عملياته المصرفية نهار الأَول من نيسان 1964.
أَسُوق هذَين التقريرَين لأُقارن بين لبنان قبل ستِّين سنة ولبنانَ اليوم، وبالأَخص بين بعض الدول كالسعودية والإِمارات وسنغفورة قبل ستين سنة والسعودية والإِمارات وسنغافورة اليوم. هذا لأَقف بغصَّةٍ جارحة عند أَن تتطور الدول من ستِّين سنة إِلى اليوم مع حُكَّام مخْلصين بداهةً، وأَن يتراجع لبنان من ازدهاره في ستينات القرن الماضي إِلى بؤسه القاهر في عشرينات هذا القرن، مسحوقًا بلا كهرباء ولا مصارف ولا نقْد ولا دواء، ويتَّكل على الدول المانحة هو الْكان دولة مانحة تعتزُّ بليرتها اللبنانية، وبعدما كان جوازُ السفَر علامة فخرٍ لحامليه، بات جوازَ عبور للسفَر بدون فخر وبدون عودة، وأَرقامُ الهجرة الحقيقيةُ مرعبةٌ في حقيقتها الـمُرَّة.
هل هذا قُصورٌ من الذكاء اللبناني في إِدارة البلاد؟ لا. أَبدًا. العقول اللبنانية في العالَم تُذهل العالَم وتَخدُم دوَلَهُ ويخسرها لبنان. إِنما هو قصورُ الإِدارة والإِرادة لأَن معظمَ مَن تولَّوا سياسة البلاد منذ ستين عامًا، فاسدون يوضاسيون راح حُكْمُهم يَنهَش الجسم اللبناني عهدًا بعد عهد، حكومةً بعد حكومة، مجلسًا نيابيًا بعد آخَر، حتى انهارت الدعائم على أهلها ولم ينجُ منهم سوى الـمُسبِّبين.
هُم وحدهم مسؤُولون؟ طبعًا لا. ففي الشعب اللبناني أَفراد أَغناميون اتِّباعيون عميانيون مستسلمون مستزلمون يَدفَعهم غباؤُهم إِلى شتم جلَّاديهم ثم انتخابِ الجلَّادين ذاتِهم دورةً بعد دورة، عملًا بالمقولة التافهة: “مينما أَخَد إِمي صار عمِّي”، أَو “الإِيد الْـما فيك تكسرها بوسها وادعِ عليها بالكسر”.
وبين غباء المستزلمين الأَغناميين، وبقاء الجلَّادين على أَكتاف أَزلامهم، يعاني الشعب اللبناني كلُّه من تهمة أَنه هو المسؤُول عن سقوط الطائرة لا قبطان الطائرة، وينتظرُ اعتقاله جماعيًّا على أَرض المطار فيما القبطان يُكمِل طريقه ضاحكًا عارفًا أَنه فوق الشبُهات وأَن مَحَاسيْبه سيَعودُون فيُسْقِطون اسمه في صندوقة اقتراعٍ تُعيده من جديدٍ قبطانًا جلَّادًا على طائرة لن يحاسبه أَحد على قيادتها إِذا سقطَت، فهو سليمًا سينجو منها هابطًا بمظلَّته السياسية.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com