من دقائق الأُوتوبيوغرافيا : معرفةُ الفصل بين الذات والسوى، بين الـ”أَنا” والآخَر، بين الذاتيّ الذي قد لا يَهُمُّ القارئ والموضوعي الذي قد يَهُمُّهُ لأَنه يَعنيه في وطنه أَو مجتمعه أَو أَفكاره.
البروفسور ابرهيم نجار(الأُستاذ الفخري لدى كلية الحقوق والعلوم السياسة في جامعة القديس يوسف، والمحامي بالاستئْناف وذاتَ فترتَين وزير العدل) لم يكتب سيرتَه الذاتية تعريفًا أَو استذكارًا بل شهادةً على سحابةٍ من وطنٍ عمِلَ له ولا يزال، بذَلَ له ولا يزال، ورفَعَ له وما زال يَرفَع حضورًا استشاريًّا حين يُسأَل، وبادرةً ثقافية بدون أَن يُسأَل (أَسَّس “مركز الثقافة والحريات” ويَنْسُجُ له ندواتٍ متتاليةً حول مواضيعَ وطنية وفكرية وفنية)، حتى لكأَنه مصمِّمٌ دون كلَل أَن يرفع الوطن على قاعدة الثقافة، كما إِيمانًا بما قال عنها أَلبر كامو: “كلُّ ما يَحُطُّ من شأْن الثقافة يَختصرُ الطريق إِلى الاستعباد” (حوارُ كامو سنة 1951 لجريدة “كاليبان”).
نَحا ابرهيم نجار إِلى الثقافة في شعاعها الأَوسع فكْرًا وآدابًا وفنونًا، راصدًا لها في سيرته الذاتية “الخِيار والقَدَر” (734 صفحة حجمًا كبيرًا) كلَّ ما استطاعه من إِمكاناتٍ تَجاوَزَ بها كلَّ آنـيٍّ في شبابه الحزبي ونضاله السياسي وقناعاته الوطنية.
وها هو يقفُ اليوم، بكل قوَّته الإِقناعية العُليا، مدافعًا عن الهوية اللبنانية والكيان اللبناني والصيغة اللبنانية، راصدًا جهدَه على التاريخ والتراث والثقافة، مؤْمنًا بــ”التعدُّدية الحضارية” كما صاغَها شارل مالك، وبدَولة مركزية قوية حاسمة حازمة عازمة، مناديًا بعدم اليأْس بل بالاحتمال الميثُولوجي الإِغريقي حيال كلِّ ما يَجري اليوم في لبنان من كوارث لا تُوصَف، كي نتخطَّى الأَيام الصعبة ونبلغَ قمة الإِيمان بلبنان اللبناني.. ولعلَّ ما مرَّ به من صعوبات شخصية في طفولته وصباه وشبابه، فَوْلَذَ قواهُ فبات أَحد الأَساطين الحكماء القلائل في لبنان يعتنقُون أَخلاقيات العمل السياسي وآدابَه العليا، حتى بات كلامُهُ، أَيَّانَ جاءَ وكلَّما، نابعًا من الكلمة الموزونة الوُثقى التي تُرشدُ إِلى النُور متجاهلةً لعنةَ العتمة.
في كل صفحةٍ من كتابه الثَريّ، لَمعةُ أَملٍ تُؤَكِّد أَنَّ لبنان أَقوى من أَعاصيرَ تجتاحُه ورياحٍ تضْربه بقسوةِ الانتقام من جماله وجلاله، حتى لهو “دولة ممكنة” لوطنٍ خالد، قيمتُها أَن تعرف كيف تكونُ صالحةً إِذا صلُحَ ساستُها كي لا يَهدمَ فسادُهم صورةَ الدولة فيُشَوِّه صورة الوطن.
خمسةُ أَقسام كبرى، في كتابه، تأْخذ بالقارئ إِلى حياة حافلة بصعوباتٍ لم تكْسر همَّةً ولن تَطوي طموحًا. إِنْ هي إِلَّا تجارب تَقطَع الشوك لبُلُوغ الورد، فمن نعمة الأَرَج يتشكَّل الإِيمان.. لم أَقرأْ في الكتاب صفحةً واحدة ليس فيها تَطَلُّعٌ إِلى فوق، حيثُ الرجاءُ لا ينكسِر إِذا انكسَر اليأْس. فالجذور، منذ الانوجاد، مرصودةٌ على الشمس لا على الضباب، على السنديانة والصخرة لا على الفيافي الرملية، على الحقوق والفكْر الملتزم لا على التهويم في إِيديولوجيات غُيُومية. هكذا لا يكون الوطن سُكنى بل قدَر. وإِذ هو عاصرَ أَكثر من رئيس وحاكم ومسؤُول، تعالى على السقطات وواصل تَوَغُّله في قناعاته، وها هو اليوم في بيئةٍ من نَسْجِه تجعلُه هانئًا بجناهُ على بيدر الحصاد.
كتابُه “الخيار والقدر” ليس مجموع صفحات بل مدرسةُ قِــيَم، طوبى لِمَن يَتَتَلْمذ عليها في بحثه عن نعمة الوطن.
ابرهيم نجار، الفائقُ الدماثَة حتى إِرباك مُـحادثه، يأْسر محاوريه بتهذيبِه الـجَمّ ويَمضي في قناعاته، فيلتقي لديه، تَوازيًا مُذهلًا، عُمقُ الخِيار ومواجهةُ القدر.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com