“إِذا كان السيد ليون كايلا حاكمَ لبنان، فالشعب اللبناني هو فوقَ السيد كايلا وفوقَ جميع المناصب”…
“إِذا خسرتُ كلَّ شيْءٍ ولم يبقَ معي سوى حجر صغير من حجارة لبنان، سأَستمر في النضال وحدي ضدَّ كل مشروع يمسُّ الكيان اللبناني”…
“لا يُمكنُ الوطن اللبناني أَن يستمرّ إِلَّا بنظام تؤَمِّنُ له ضمانات دولية الدفاع عنه والحفاظَ عليه”…
هذه المقولاتُ اللبنانية الساطعة قالها في فتراتٍ محامٍ لامعٌ تَدَرَّجَ في مكتبه مَن سيصبحان رئيسَي جمهورية لبنان: بشارة الخوري وكميل شمعون. لكنه قبلَهما كان هو الرئيس الذي ناضل لاستقلال لبنان قبل إِعلان الاستقلال..
إِنه الرئيس إِميل إدّه. وكان لي فرحُ اكتشافه في كتاب الدكتور رياض نخول الصادر قبل أَيام في 832 صفحة حجمًا كبيرًا، بينها 400 صفحة ضمت 94 وثيقة أَصليةً يَصدُر معظمها للمرة الأُولى في هذا السِفْر الموسوعي.
تطالعُنا في كتاب رياض نخول مقولاتٌ ومواقفُ ذاتَ فترةٍ مخاضية من تاريخ لبنان الحديث، منها قولُه: “اللبنانيون أُمَّة واحدة، ولبنانُ دولة مستقلة ذات سيادة تامة”، ومنها موقفُه في الدفاع عن القضية اللبنانية منفصلةً عن القضية السورية فترتئذٍ، ومقاومتُهُ العنيدة ضدَّ المطامع الصهيونية في أَرض لبنان، ومنها إِطلاقُه مبدأَ لَبْنَنَةِ لبنان ولو في إِطار العروبة المحيطة، ومنها تَمَسُّكُهُ بوحدة لبنان رافضًا أَيَّ تقسيم أَو اقتطاع أَو إِلحاق، مجاهرًا بفكرته الرئيسة: صيانةُ عقْد وطني واجتماعي بين أَفراد الشعب اللبناني وتعميقُه في التمسُّك بلبنان وطنًا نهائيًّا لجميع أَبنائه، إِبان كانت تصاغ (قبل نحو 80 سنة من اليوم) خرائطُ جديدةٌ للمنطقة. يومها راح إِميل إِده يُجاهر بدور لبنان الريادي في المنطقة من خلال نظامه الديمقراطي بتنوُّع مجتمعه مصدرَ غنًى له وللمنطقة، ونموذجًا ساطعًا يحتذى عالَميًّا بكونه تَنَوُّعًا من ضمن الوحدة.
هكذا دافع إِميل إده مواجهًا تحدياتٍ قاسيةً: مراتٍ من مطامعَ صهيونيةٍ عالَميةٍ يدعمها الإِنكليز لتقليص حدود لبنان الجنوبية حتى حدود الليطاني، ومراتٍ واجَهَ ادعاءاتِ قوًى سياسيةٍ لبنانيةٍ بأَن لبنان كيانٌ “مصطنَع” لأَنه جزء من سورية الكبرى أَو من الأُمة العربية الإِسلامية. لهذا عارض إِميل إده تيارًا فرنسيًّا قويًّا كان يدعو إِلى فدرالية سورية بعد اتفاق فيصل-كليمانصو، كما واجه مطامعَ الصهيونيةِ حين في باريس اجتمع الوفد اللبناني الثالث بحاييم وايزمن الذي اقترح على الوفد اللبناني ضمَّ لبنان الجنوبي حتى الليطاني إِلى فلسطين. وكان لوايزمان دور رئيس في استصدار وعد بلفور بتقسيم فلسطين.
ومن أَبرز مآثر إِميل إده رئيسًا جمهوريةَ لبنان: إِبرامُ المعاهدة اللبنانية الفرنسية سنة 1936 بتثبيت حدود لبنان ووحدة أَراضيه بضمانة دولية، وبوضع حدٍّ للمطامع الصهيونية في الجنوب اللبناني، وقطْعِ الطريق نهائيًّا على الطروحات الوحدوية، وإِيجاد صيغةِ العيش الواحد بين أَبناء شعب لبنان، هذه الصيغة التي، بفضله، تبلْوَرَت لاحقًا في الميثاق الوطني سنة 1943 عند إِطلاق استقلال لبنان.
بذلك أَنقذ إِميل إده لبنان من خطَرَين: الأَولُ ضمُّ لبنان إِلى وحدة عربية يؤَيِّدها رؤَساء دول عربية ويدعمها الإِنكليز، والآخَر: الرضوخُ لسياسة بريطانيا باقتطاع جزءٍ من جنوب لبنان وضمِّه إِلى فلسطين وإِنشاءِ وطن قومي لليهود كما جاء في وعد بلفور وفي اقتراح بن غوريون إِنشاءَ دولة مسيحية كلّيًّا في لبنان.
كُنوزٌ كثيرة يكشفها كتاب رياض نخول “إِميل إده رائد لبنان الكبير”، تمنَّيتُه يكون في كل بيت، لاكتشافِ سياسيٍّ لبناني كبير أَنقذَ لبنان مما كان يترصَّد به وما زال يهدِّده، ولبنان اليوم مسحوقٌ بحُكم مشلول ودولة مشلولة تنتظر في الحكْم منقذًا يعلو صوته بلبنان اللبناني فيعودُ شعب لبنان إِلى اعتزازه بوطنٍ غيرِ عاديٍّ بين الأَوطان. هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com